#مقالات رأي
لولوة المنصوري 6 يوليو 2021
غالباً تأخذ فكرة الوطن - في الأدب - أبعاداً مجازية، تنضح من مخزون عميق في الروح لذاكرة متدثّرة بالإيحاء، ذلك النور القديم المنزوي في ركن حميم ودافئ، وباحث دائم عن مطلق الأمان والرعاية.
تأتي فكرة الوطن - في الأدب - على شكل بُعد مختزل للطيف، كمثل تلك الرقعة الخشبية المرفوعة عن أرض الفيضان، وتُسمى طاولةً، وفق مرويّة الكاتب الأرجنتيني «أدريان.ن. برافي»، عن موطنه الأول المتداعي عبر الذاكرة الطفولية: «كنت أعيش في منزل قديم بالقرب من النّهر، وعندما كان الغمر يصل إلينا؛ كانت أمي تضعني على طاولة المطبخ وتتركني هناك، ريثما تقوم هي ووالدي وبقية أفراد الأسرة بصدّ المياه الآتية من النّهر. بإعادة النظر، الآن، ربما يمكنني القول إن تلك الطاولة كانت، ولاتزال، وطني الحقيقي: إذا كان عليَّ، اليوم على وجه التحديد، أن أقول ما هو وطني الحقيقي؛ فإنني أودُّ أن أقول إنه الطاولة هناك. رسوماتي الأولى، وربما حروف أبجديتي الأولى، خططتها عندما كانت المياه تنحدر نحونا، وتمضي تاركةً على الجدار قشرةً رقيقةً من الطين، كنتُ أنقش عليها بإصبعي المغطاة بالبصاق نقوشي الخفيفة، بعد أن أُوضع على الطاولة من قِبل أمي، أو من قِبل أبي». (غيرة اللغات)، ص: 10.
إقرأ أيضاً: رئيس التحرير بالإنابة فاطمة هلال تكتب: تمسكوا بأحلامكم
وقد تأتي فكرة الوطن وفق انسياب تيار جارف للحنين، أحياناً ليس الحنين إلى الوطن يكمن مفاده في ذلك الفضاء المكاني، الذي عشناه وتركناه وراءنا ماضين نحو الغُربة؛ فقد نصاب بالشوق ونحن جلوس في بيوتنا وأوطاننا التي لم نبرحها أبداً طوال مسيرة الحياة. لكن ما الوطن المقصود هنا، والذي يتوجه إليه الحنين كمعادل مانع للنسيان؟ يقول محمد الماغوط: «في مرحلة الفطام، وأنا أحبو باكياً، وراء أمّي المنصرفة عني وراء الكنس، والمسح، ونفض الغبار، كنتُ آكل كلَّ ما تطوله أظافري الغضّة من تُراب العتبة، والشارع، وفسحة الدار، ويبدو أنني أكلتُ حصّتي من الوطن منذ ذلك الحين». (سأخون وطني)، ص: 410.
كأنما يرتحل بنا الماغوط عبر هذا الرّحاب الشعري إلى «زمن الطفولة» أكثر من موطن عتبتها المتحجّرة، وفق طابع تجسيدي هو «المنزل الأول»؛ فالبيت هنا أثيري طيفيّ غباريّ، رغم ذكر تفاصيل أركانه المادية: (تُراب، شارع، وفسحة الدار). نحن مصابون بالحنين إلى أوطان الزمن الذي تركناه وراءنا، وليس إلى المكان ذاته؛ فالمكان يمكننا الانتقال منه والعودة إليه، غير أن عجزنا يكمن في العودة عبر نظام الزمن. الأمكنة ثابتة، لكنها تتحول بفعل تحرّك الزمن، والعودة إلى الوطن تعني - بشكل آخر - عودةً إلى زمن الوجوه العتيقة، والأصوات والأبواب الحنونة، والطبيعة الأولى التي شكّلت ملامح شخصية طفولتنا.. باختصار هي عودة الذاكرة المصابة بـ«نوستالجيا الأرض»، والذاكرة معنيَّة بشكل عميق بالزمن.