#ثقافة وفنون
نجاة الظاهري السبت 14 سبتمبر 10:00
لو لم يقم أحدٌ بحفظ وصيانة كتب القدامى؛ تلك التي تحمل حكمة العصور، وأدب الأجيال؛ لما وصلت إلينا. وقد بدأت عملية الحفظ منذ القدم، وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، وتستخدم فيها تقنيات قديمة وحديثة؛ لرفد المكتبات بكل ما خطه العلماء والأدباء، متصدية لعوامل الزمن الطاحنة. شيخة سرحان الصوافي اختارت أن تكون من بين الأوصياء على التراث، بروحٍ مفعمة بالشغف وحب العمل؛ فهي أخصائية الترميم في الأرشيف الوطني، وتتعامل بحنو مع الأوراق الممزقة لتداويها، وتبحث عن كل ما يتعلق بالمخطوطات؛ لتتفرد في عملها. وتؤكد الصوافي أن الترميم هو «الكافيين»، الذي يمنحها القدرة على الاستمرار، والعمل بحماس.. التقتها «زهرة الخليج»؛ لتكشف لنا بعضاً من خبايا عالم الترميم من داخل المختبر، ولنتعرف إليها عن قرب:
الشرارة الأولى
مادة واحدة في تخصصها الجامعي، أشعلت شغف شيخة بالترميم؛ لتدرك أنه الطريق، الذي ترغب في أن تسلكه طوال حياتها. تروي لنا شيخة بداية قصتها، قائلة: «كنت أدرس أرشفة البيانات وإدارة الوثائق في كلية التقنية، وخلال ذلك، مررنا بموضوع الترميم بشكل عابر. لكن فوراً شعرتُ بأن هذا المجال يعبر عني تماماً، وأدركت أنني أحب العمل بيدي أكثر من الجلوس في مكتب. قبل مقابلتي للعمل في الأرشيف، بحثت عن دورات في الترميم، وتحدثت عنه بشغف خلال المقابلة. وبعد بدء العمل، تعلمت من الخبراء الذين جاؤوا لنقل خبراتهم لنا وما زالوا، ومن هنا بدأت رحلتي للتعمق في هذا المجال، لأنني شعرتُ بأنني أخيراً وجدت مكاني الصحيح».
فضول المعرفة
أصبحت المخطوطات، التي تمر بين يدَيْ شيخة تثير فضولها؛ لتعرف كل ما يتعلق بها. ولم يعد اهتمامها مقتصراً على إصلاحها وحفظها، بل توسع ليشمل فهمها بعمق. وتوضح لنا شيخة هذا الأمر: «في البداية، اقتصر عملي على تنظيف المخطوطات، وإصلاح التمزقات، وملء الفراغات. لاحقاً، ازداد فضولي؛ لمعرفة المزيد عن هذه المخطوطات. تساءلتُ: ما المخطوطة؟.. وكيف كان القدماء يحافظون عليها، ويقومون بترميمها؟.. المخطوطات ليست مجرد كتب، فهي قطع فنية متقنة، منمنمة بزخارف تأسر العين؛ لذلك أردتُ أن أتعلم كل شيء عنها، لأفهم المخطوطة، وأقدر عمرها من خلال تفاصيلها الدقيقة، ومنها: نوع الورق والزخارف والألوان المستخدمة، وطريقة خياطتها، والجلد. الآن، بعد أن اكتسبت الفهم الكافي، أصبح ترميم المخطوطات، والخرائط، والصور، وحتى الأوراق البسيطة، جزءاً من حياتي، أقوم به بمتعة كبيرة».
رحلة الترميم
مرتدية لباس المختبر، تتعامل شيخة مع المخطوطة الجديدة كما يتعامل الطبيب مع مريضه، فتحمل الفرشاة في يد، والحب في أخرى، وتبين لنا مراحل عملية الترميم بقولها: «عند استلام المخطوطة، أقوم بتقييمها؛ لتحديد ما تحتاج إليه من إجراءات. فإذا كانت تعاني العفن أو الحشرات، فإننا نتخذ إجراءات سريعة؛ لمنع انتقال الضرر إلى المخطوطات الأخرى. في حالة الحشرات، نقوم بإدخال المخطوطة في جهاز التعقيم لمدة 21 يوماً، وهي فترة حياة الحشرة؛ لضمان القضاء عليها بالكامل. أما إذا كانت تحتوي على عفن، فإننا نحدد الإجراء المناسب حسب نوع العفن وكميته. بعد المعالجة الأولية، نقوم بتنظيف المخطوطة بعناية، باستخدام أدوات تنظيف مختلفة، مثل: الفرشاة، والإسفنجة، والمكنسة الصغيرة؛ بناءً على نوع الورق، ومستوى تحمله. بعد التنظيف، ننتقل إلى مرحلة سد الفراغات، ولصق الصفحات الممزقة، باستخدام ورق ياباني خاص، وهو ورق يقترب في خفته من المحارم الورقية، ويختلف في سُمكه، وصمغ طبيعي نصنعه بأنفسنا من نشا الأرز والماء. وفي حال كانت الوثيقة تحتوي على حموضة عالية، نقيس نسبة الحموضة؛ لتحديد ما إذا كانت بحاجة إلى معالجة. وأود أن أشير إلى أن الكثيرين يعتقدون أن الكتب الحديثة أفضل من القديمة، وهذا اعتقاد خاطئ؛ فالكتب المصنوعة يدوياً تتحمل عوامل الزمن أكثر من تلك المصنوعة حديثاً».
صفات المرمِّم
تتطلب عملية ترميم الوثائق صبراً طويلاً، واهتماماً بالغاً بالتفاصيل.. تخبرنا شيخة عن الصفات، التي جعلتها مرممةً ماهرة: «إذا كان لدى الإنسان حب لعمله، وشغف به، فسيكتسب المهارات اللازمة بشكل طبيعي. في بداية عملي، كنت أشعر بالخوف، كوني بطبعي غير صبورة، ومع الوقت تعلمت الحذر والتفكير قبل التعامل مع المخطوطات. فالحب، الصبر، والاستمرار تقود الإنسان إلى تحقيق أهدافه. أما المهارات الأخرى، فتأتي مع الممارسة والتركيز. وفي بعض الأحيان، يُطلب منا تقديرٌ سريع للوقت اللازم لترميم مخطوطة ما، وهنا تظهر أهمية سرعة البديهة والتركيز. إذا مر أسبوع دون أن أقوم بترميم شيء ما، فإنني أشعر بأنني أفقد مهاراتي؛ لذلك أقضي معظم وقتي في المختبر، حتى لو كان الوقت المتاح لي قصيراً».
الفن والترميم.. تزاوج الإبداع
شيخة كانت تمارس الرسم، قبل أن تبدأ عملها في الترميم، لكنها لاحظت تطوراً في مهاراتها بعد دخولها هذا المجال، توضح: «أشعر بأن الفن والترميم مرتبطان؛ فعندما كنت أرسم قبل أن أبدأ الترميم، كنت أقوم بذلك من دون تركيز كبير. لكن بعد ذلك، أصبحت أدقق أكثر على التفاصيل، وأركز على إتقان عملي. لقد مررت بنقلة نوعية في هذا الجانب، فالرسم نوع من الفن، وكذلك الترميم، وأجد العلاقة بينهما، كما بين النحت والترميم».