يحيى مفرح 28 مارس 2019
سبق ظهور الفنان طلال مداح في المشهد الفني السعودي ثلاثة أجيال، كانت لها إسهامات مهمة في العمل على إنشاء الملمح الفني السعودي وفق معطيات ضئيلة ومناخ اجتماعي صعب للغاية في ذلك الوقت، وبعد الاستقرار السياسي الذي عاشته البلاد، بدأ العمل بجدية مطلقة لبدء التنمية الحقيقية لمرافق الحياة كي يستطيع الشعب الحصول على متطلباته الضرورية ليتناغم مع مواصفات الحياة العصرية ومواكبة الشعوب في العالم.
في منتصف خمسينات القرن الماضي الميلادية شهدت الحياة الاجتماعية والفنية في المملكة العربية السعودية ولادة الفنان طلال مداح وقد صاحب ليلة اعتلائه لأول مرة المسرح الغنائي أن تعطلت الحركة المرورية في محافظة الطائف، مهد الغناء السعودي ومنبره، الذي صدح ببداية النشاط الغنائي بالصورة المعروفة في الأذهان، وبظهور الفنان طلال مداح بدأت صفحة جديدة من حياة وتاريخ الغناء في السعودية، فما سبق ذلك كان منقولاً من صور غنائية قديمة للغاية إلى جانب الألوان الغنائية الشعبية والفلكلورات الشائعة آنذاك، وما يسمع من قبل إذاعات عدن والمنامة حينها.
وعندما ظهر الفنان طلال مداح قدم لأول مرة في التاريخ السعودي أغنية حديثة متطورة مذهب واثنين كوبليه، وقد سألته يوماً عن ذلك الأمر هل يعد بمثابة المغامرة فقال نعم. كان في الإمكان أن تكون نهايتي في تلك الأغنية عندما غنيتها لأول مرة بيد أنني قد قدمت شيئاً جديداً نال استحسان الجمهور وانعكس الحدث برمته على طلال مداح الذي عاش مرحلة مهمة في حياته، فقد استشعر المسؤولية مبكراً كيف حدث ذلك، وهو الذي قد خضع لفترة تأهيل ثقافية وموسيقية مركزة جعلته يقدم نفسه بصورة مغايرة لمن سبقه، وباتساع شهرته وسمعته الفنية كتب عصراً جديداً في تاريخ الغناء السعودي حصد من ورائه النجومية المطلقة والذيوع والانتشار على جميع الصُّعد المحلية والخليجية والعربية في وقت مبكر جداً من عمره، وبات طلال مداح ملء السمع والبصر بإزاحته من سبقوه وأضحى قدوة لمن جاء بعده، وبالنظر لمكونات الفنان طلال مداح، فهو ملحن بارع وعازف متمكن ومؤدٍّ باذخ الجمال، ويستطيع القارئ والمتتبع لألحان طلال مداح أن يكتشف أنها عصرية ومتطورة للغاية عندما قدم نفسه في منتصف الخمسينات وذاع صيته ولمع نجمه في الستينات عندما غادر إلى منصة بيروت الفنية وقدم نفسه في مسارحها ناشراً الأغنية السعودية فاتحاً نافذة جديدة في مشواره، وهو التعرف إلى الموروث الموسيقي في بلاد الشام قاطبة وغنى من الفلكلور اللبناني، وتعاون مع ملحنيه وفنانيه، ونجح بين ضحية وعشاها في أن يكون نجماً يشار إليه بالبنان في لبنان عاصمة الفن العربي آنذاك، ووقف على مسارحها إلى جوار أبرز نجوم الغناء العربي الذين كانوا يفدون إلى بيروت، وتوج هذه الرحلة بمكاسب عدة لم تتحقق لغيره، منها ظهوره على غلاف مجلة «الصياد» اللبنانية لأول مرة عام 1964، واكتساح أغنيته «سويعات الأصيل» للشارع العربي، عندما بلغت مبيعاتها 60 ألف نسخة، وهو ما جعل الفنان العربي المرموق محمد عبد الوهاب أن يذهب لبيروت ليوقع عقد احتكار فني لمصلحة شركته الإنتاجية، ويعد الفنان طلال مداح الوحيد الذي نجح في فسخ العقد الاحتكاري بمهارة فائقة، وبقي الاثنان صديقين بشكل حميمي للغاية، اتضحت معالم شخصية طلال مداح الفنية والإنسانية مبكراً، تلك الشخصية التي تعتمد على القيم والمبادئ والمثل والمروءات والتفاني والإخلاص للفن، فقد كان معطاءً بشكل لا يوصف، إذ لم يساوم يوماً على فنه أو يشترط المقابل ليقدم هذا الفن، كان سامياً بفنه وشخصه إلى درجة جعلته منهجاً ومرجعية، فهو يتمتع بثقافة فنية غزيرة، فقد اقتحم مجال التأليف الموسيقى مبكراً وأسهم في ولادة الكثير من النجوم، ولحن لعدد من الفنانين العرب، وأجاد العزف على الكثير من الآلات الموسيقية، وأنجز تحولات كبيرة في مسار الموسيقى والغناء السعودي والخليجي والعربي جعلته راسخاً في الذاكرة الفنية حتى يومنا هذا.