#مقالات رأي
د. شما محمد بن خالد آل نهيان 4 مايو 2024
وسط هذا الإعصار من التطور المتسارع في التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، نحتاج إلى أن ننتبه للحظة، ونخرج من الإطار لبعض الوقت، ونطرح على العقل أسئلة محورية مهمة، هي: كيف تتغير القيم الإنسانية في ظل هذا التطور، وهل القيم الإنسانية تفقد فطرتها التي عاشت عليها آلاف السنين في عصر الذكاء الاصطناعي، وهل نحن أمام انحناءة تاريخية في مسار البشرية، تماثل تلك الانحناءة التي حدثت قبل آلاف السنين عند ظهور سلالة الإنسان العاقل؟
قديماً، كانت القيم الإنسانية متجذرة في كل العلاقات الإنسانية بين البشر، وكانت الموروثات الثقافية والمجتمعية تتطور، وتؤطر لمفردات الحياة اليومية، وكانت قيمٌ، مثل: التعاطف والتعاون والاحترام المتبادل والرحمة، أحجار تُبنى عليها الحضارة الإنسانية في المجتمعات القديمة، فلم يكن الإنسان كفرد كياناً منفصلاً، بل كان جزءاً أصيلاً ذائباً في كينونة أخلاقية جامعة، تنتقل مفرداتها ومكوناتها عبر الأجيال.
ومع انحناءة التطور البشري، ودخوله إلى عصر التكنولوجيا؛ بدأت تلك القيم والبنية المجتمعية تواجه تحديات وأزمات وجودية حاسمة في تاريخ الإنسانية. فالتطور التكنولوجي قدم للبشر شبكة اتصالات واسعة ممتدة النقاط، تمثل كل نقطة فيها وجوداً فردياً للإنسان داخل المنظومة العالمية للشبكة العنكبوتية، وكأن وصفها بالعنكبوتية جعلها تشبه مصيدة العنكبوت التي تغري فريستها بجمال بنيتها؛ لتقع في الفخ، وتتحول إلى جزء في بنية تلك الشبكة، وتخضع لمفرداتها، وهنا ظهر البعد الجديد الذي جعل الفرد في حالة اتصال دائم ومستمر داخل قوقعة فردية في واقعها، لكنها في صورتها الوهمية هي انغماس في مجتمع افتراضي بديل عن المجتمع الواقعي. وهنا، بدأت تظهر لنا التساؤلات الوجودية حول قدرة القيم الإنسانية الفطرية على الصمود في مواجهة سرعة انغماس الفرد داخل قوقعته التكنولوجية، وهل سيكون الذكاء الاصطناعي أداة لتعزيز القيم الإنسانية من خلال تحسين جودة الحياة وفتح فرص جديدة، أم أنه سيقود إلى تباعد أكبر بين الإنسان وجذوره الأخلاقية؟
التكنولوجيا قد تفتح طرقاً لإعادة تعريف القيم الإنسانية في سياق حديث، كما أن القيم الإنسانية لم توجَد وتؤطر لذاتها في العلاقات الإنسانية بصورة مفاجئة ودفعة واحدة، بل تكونت عبر التطور والخبرات الإنسانية، وصاحبت التطور الوجودي للإنسان، وخضعت للانتخاب والتغيير والتعديل، وهذا ما يحدث على مدار الخط الزمني للوجود البشري، وهي حتمية لا يمكن أن يتحكم فيها الإنسان بطريقة مباشرة؛ ومن ثم فإن ما يحدث حالياً، وسيحدث مستقبلاً، هو جزء من تطور طبيعي وانتخاب قيمي وأخلاقي مستمر لا يتوقف، وأن المقياس هو قدرة ذلك الانتخاب على تحقيق المنفعة العامة للإنسانية كوحدة وجودية في مواجهة بقية الوحدات الوجودية الأخرى المكونة للكون والحياة،
لكن هذا لا يمنع من وجود مخاوف من أن يتحول هذا الانتخاب إلى السير في اتجاه الفردية، وتحول الإنسان إلى كائن منعزل، وتتعاظم مع ذلك القيم السلبية التي تضع الإنسانية على المحك والانهيار القيمي والأخلاقي؛ ومن هنا نجد أنفسنا أمام التحدي الأكبر اليوم، وهو إيجاد التوازن بين الحفاظ على القيم الإنسانية التقليدية، واستيعاب التقدم التكنولوجي.
لذلك، لا بد أن نتعامل مع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي من مبدأ أنهما وُجدا لخدمة الإنسانية، ومقاومة تحولهما إلى حاكمين لها، وسيدين عليها، وذلك من خلال العودة العكسية في اتجاه التوازن لتحقيق وتعزيز التفاعل الإنساني الواقعي والحقيقي، حتى نضمن انتخاباً قيمياً وأخلاقياً في اتجاه يحترم القيم الإنسانية، ويحقق التطور بشكل متوازن، وأيضاً إعادة تفسير القيم الإنسانية الفطرية والمتوارثة في سياق العصرنة التكنولوجية؛ للحفاظ على مجتمع متوازن إنسانياً وقيمياً، وكلمة السر تكمن في التوجه إلى المستقبل التكنولوجي، بوعي أخلاقي، وحس إنساني.