أحلام مستغانمي 24 يناير 2019
ما دمنا في عام التسامح، اسمحوا لي بأن أعايد أعدائي. لا يفوتني، في بداية هذا العام، أن أتوجّه إلى الله بالدعاء، كي يُبقيهم ذخراً لي، دوماً متربّصين بي، فلولاهم ما كان لي أن أقيس نجاحاتي. قال أحدهم: «إذا لم تجد لك حاقداً فاعلم أنك إنسان فاشل». فالأديب الذي لا أعداء له هو أديب سيئ الحظ. إنه كاتبٌ غير مضمون المستقبل، لأنه فاقد وقود التحدِّي. وأنا المرأة الكسول بطبعي، التي يلزمها أكثر من أربع سنوات لإصدار كتاب واحد، أحتاج إلى أعداء مخلصين كي يتسنَّى لي الردُّ عليهم بمزيد من الكتابة. فالكاتب، كما تقول غادة السمّان، يزداد ازدهاراً عندما يُهاجَم. لـذا، تَعتبر استمراريتها انتقاماً من محترفي إيذائها. وبفضل أحقادهم، اضطرت إلى إثبات حضورها أربعين مرّة، بعدد كتبها. ذلك أنّ الكاتب لا يردُّ على الشتائم بمثلها، ولا على الأحقاد بما يُماثلها من ضغائن ومكائد، فليس من عادة الكبار أن يهاجموا، وإن هُوجموا لا يردُّون. هذا من دروس نزار الذي لم يكن يُكلّف نفسه جهد قراءة ما يكتبه عنه أعداؤه، ويا لكثرتهم.
النجاح ينجب لنا الأعداء، لكنّ المأساة تكمن في أننا لا نظفر دائماً بخصوم يليقون بنا. في زمن مضى، كان المتربّصون كباراً وعلى قدر من الخلق، وكانت المعارك الأدبيّة من الأهمّية والثراء بحيث لا يزال التاريخ يذكرها. اليوم تقزّم الأعداء، وما عادوا أهلاً للمنازلة، غدا همّهم أن يكبروا بمن يُعادون، فلكلّ صغير عدوّ كبير يختاره سلّم مجدٍ، متوهماً أن في إمكانه أن يبلغ به القمة.
صحيح أنّني تمنيت لو كان لي أعداء شرفاء أسعد بمنازلتهم، وربما أتعلّم منهم، فالعدو الكبير هو أيضاً صديقٌ حسب أدونيس. ولكن ليس هذا زمن الكبار على ما يبدو، ولا زمن المعارك النبيلة، ولستَ أنتَ مَن تختار أعداءك، بل هم من يختارونك. فلا أسهل من تفرُّغك للتطاول على مبدع كبير، تتقاسم فوراً جهده إعلامياً، بدل إنفاق أعوام لإنجاز عمل كبير. فبالتشهير به تصنع شهرتك، وعلى منصّة اسمه تتسلّق أغلفة الكتب والمجلات، وبمحاولة تلويث قلمه تُلمّع قلمك، عساه ذات يومٍ يفقد صوابه، فينزل إلى مستنقعك لمنازلتك. وعندها، حتى وإن انتصر عليك، سيخرج ملوّثاً بالوحل. ومن هنا جاء قول أحد الحكماء: «لا تُجادل أحمق أو جاهلاً، فلا يعرف الناس الفرق بينكما». أمّا المتنبي العظيم، الذي أدرك أنّ النجاح فعلٌ عدائي، وخَبِر من خصومه كلّ أنواع الدسائس، عبثاً استدرجه شعراء عصره للردّ عليهم، طمعاً في مقاسمته جاهه، فقد ترك لنا في بيته الشهير:
«وأتعبُ من ناداكَ مَن لا تجيبُه
وأغيظُ من عاداك من لا تُشاكل»
إحدى حكمه في إغاظة الأعداء بتجاهلهم. وهي نصيحة نجدها في قول ابن المعتز: «اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله» ذلك أنّ «الحسد داءٌ منصفٌ، يفعل في الحاسد أكثر مِن فِعله في المحسود».
كلامٌ يؤكده الطب، حيث أثبتت الأبحاث أنّ المشاعر السلبيّة، كالعدائيّة والضغينة والكيد، يمكن أن يكون لها تأثيرٌ تراكمي في الجسم، يؤذي مع الوقت أصحابها، فيغدون ضحايا أمراض القلب والضغط والسكتات الدماغية. لذا، فإن الذين لديهم شخصيات حاقدة وشرِّيرة يحملون شرّهم في أجسادهم، لا في قلوبهم.
ذلك أنّ الحاقد، وهو يستشيط حقداً وكيداً، ينسى أن يتمنّى الخير لنفسه، لفرط انشغاله بتمنّي الشر لغيره، لأنه يرى نعمته في زوال نعمتك.