واسيني الأعرج 23 سبتمبر 2018
كلنا نعرف عنترة العبسي، الفارس العاشق، الذي وضعه لون بشرته في دائرة الضعف، والإنسان الأقل حظاً اجتماعياً. ماذا لو رفعنا صوتنا قليلاً وتحدثنا بصوت عالٍ عما يخافه المؤرخون؟ أولاً يجب ألا ننسى أن قصة الحب بين عنترة وعبلة نشأت في دائرة الحروب القبلية القاسية، حيث الشجاعة قيمة ميدانية وليست خطاباً. ثانياً أن مدار الوقائع يتم داخل مجتمع مصنف ومحدد، بين الأحرار والعبيد. ولكل مساحته. في ظل هذه الأوضاع، كثيراً ما يكون الحكم على الإنسان من خلال لون بشرته. العبودية ناظم للعلاقات التي كبر فيها عنترة العبسي. على الرغم من أننا نعرف سلفاً أنه لا لون للحب، الناس يملكون قلوباً متشابهة. قلب الإنسان.
بعض التفصيلات لمن لا يعرف عنترة: ولد عنترة من أب عربي، ومن أم حبشية، حالة خلاسية استثنائية. للأسف، تصوره الوثائق وفق مقاسات عنصرية. حتى تخيل عنترة لم يخلُ من هذه المسبقات. وتم وصفه كالتالي: ضخامة خلقته، وعبوس وجهه، ولفلفة شعره، وكبر شدقيه، وصلابة عظامه، وشدة منكبيه، وطول قامته. حتى الصورة التشكيلية المتخيلة، المعروفة عنه، لا تخرج عن مقاييس الزنوجة الخشنة والصلابة في الوجه، وشوارب الفروسية المخيفة. الذي تخيل هذه الصورة الحديثة اعتمد على خطاب عنصري وعبودي مبطن. وكلها فونتازمات لا علاقة لها بدراسة الخصوصيات اللونية البشرية. إذا افترضنا أن مورثات الأم هي المؤثرة، لن يكون الأمر كذلك. فالنموذج الحبشي، الإثيوبي اليوم، معروف برقته ونعومته. ملامح خلاسية للشكل الأبيض، سوى أن البشرة نحاسية كثيراً مما أعطت جمالاً للشخص. لهذا، الصورة الجسدية عن عنترة الموجودة اليوم تكاد تكون عنصرية. فهو لم ينجُ منها حتى مع والده الذي كان أول من مارسها ضد ابنه، عنترة. فقد ذاق مرارة الحرمان والبؤس والمهانة. فقد رفض والده أن يلحقه بنسبه. بمنطق اليوم، لم يعترف به. كان عبداً ومسوداً لوالده. أول عنف يسلط عليه. المعاناة الأسرية زادت وقويت عندما أعلمت سمية، زوجة والده الشابة والجميلة والناعمة، والده بأن عنترة يراودها عن نفسها. كان عنترة جميلاً، بجسد نحاسي صلب، قاوم غوايتها. ولكنها عندما يئست من استجابته، شكته لوالده بأنه يراودها عن نفسها. فكان الجلد مصيره في النهاية. لكنها سرعان ما تدخلت لحماية عنترة من شراسة والده، وأقنعته بأنه مجرد طيش شباب.
على العكس من ذلك، فقد كانت عبلة بنت مالك العبسي، واحدة من أشراف عائلة بني عبس. لم تكن تحب شجاعة عنترة فقط، ولكنها كانت تحب الرجل الجميل والناعم والقوي. هي ابنة عمه، وهو أولى بها. لكن في مجتمع القنانة يمنع ذلك. كانت العبودية هي سيدة التقويم. المجتمع الذكوري المتمثل في والده، ووالد عبلة، وأخيها عمر، لم يخرجوا من دائرة العنصرية. بينما ظلت هي وفية لقيمة الحب، ورمت وراءها تقييمات أهلها. لكن أباها كان يريد أن يتخلص من عنترة. فطلب منه مهراً خيالياً. ألف ناقة من نوق النعمان المعروفة بالعصافير، ويقال: إن عنترة خرج في طلب عصافير النعمان التي لاقى بسببها مصاعب كثيرة لدرجة أن أسر. لكنه في النهاية عاد بمهره، ألفاً من عصافير الملك النعمان. كل الجهد كان عبثاً. التجأ عمه إلى حيلة أخرى. طلب من الفرسان الذين كانوا يريدون الزواج بعبلة أن يأتوه بمهرها: رأس عنترة. ونظراً إلى قوته وتواطئه السري مع عبلة، فقد قضى على المتربصين به. لكن والدها منعها من حبها إلى أن ماتت كمداً. المحبون للنهايات السعيدة يميلون إلى الزواج في النهاية بالخصوص بعد أن اعترف والده به فزالت عنه هجنة النسب، وأصبح ابن عم حقيقي، إضافة إلى كونه فارساً، فحرره ذلك من قيوده، لكن هذا لا يتوافق مع طبيعة والدها الحاقد على عنترة. لكن المنطق الأقرب إلى الحقيقة، هو أن عبلة ظلت تقاتل أهلها رافضة تزويجها من أحد أشراف القبيلة، حتى غرقت في العزلة لولا لقاءاتها السرية تحت الصخرة. وعندما كبر حصارها، ومراقبتهما، لم يتوقف عنترة عن حبها، وحولها إلى أيقونة شعرية كبيرة. أصبحت عبلة قصيدة تقال في كل الأمكنة وتخطت عتبة كونها امرأة فقط. ظلت فروسيته في قبيلته مشروطة بحبه، وهي التي كانت يعطيه الشجاعة والاستمرار.
ولقـد ذكـــــرتـك والرمــــاح نواهـــل مني وبيض الهنــد تقطر من دمي
فوددت تقبيــل الســـــيــوف لأنهــا لمعـــت كبــارق ثغــــرك المتبســـم
ومثل كل الأبطال العظام، يُقتل عنترة غدراً بالسم. اغتاله الأسد الرهيص، منافسه في عبلة، والمتواطئ مع والدها.