فاطمة الصايغ 15 أغسطس 2018
تتميّز مياه الخليج العربي الذي تطل عليه دولة الإمارات بدفئها وهدوئها، وهذا بسبب انغلاق الخليج الذي تنعدم فيه التيارات المائية، حيث تتوافر المواد الغذائية للأسماك فتُكوّن بيئة خصبة مليئة بالأملاح المغذية تساعد على وجود وتَعدّد الأحياء المائية. ومنذ قديم الزمان اعتبر البحر مصدراً أساسياً للرزق للمجتمع الإماراتي، وعلى الرغم من ازدهار الثروة النفطية واعتبارها المصدر الاقتصادي الأول، احتفظت الأسماك في الإمارات بمكانتها ككنر غذائي وثروة اقتصادية، يتم الاهتمام بها من قِبل الجهات المتخصصة للحفاظ عليها، وذلك عن طريق تنظيم مواسم الصيد ودعم الجمعيات التي تُعنَى بالصيّادين، ومراكز الدراسات التي تسعى إلى الحفاظ على الأنواع المهدَّدة بالانقراض.
مع تَعدُّد أنواع الأسماك في الإمارات، يتزاحم البائعون مع إشراقة صباح كل شمس، لعرض صيد اليوم من أسماك «الشعري» و«الصافي» و«الرّوبيان» وغيرها، ويتهافت أغلب البائعين في (سوق السمك) في أبوظبي، وهم من الجالية الهندية، على الزبائن لجذبهم إلى «دكتهم» لعرض ما في حوزتهم من أسماك، ولكن ما إن تصل إلى «الدكة» رقم 74، حتى تجد النّوخذة الإماراتي راشد المرزوقي، يعرض السمك الطازج بكل أنواعه في محل «السردال»، ويُعاونه عمّال من الجالية العربية، ولكن الأجمل من ذلك مُساندة عائلة النوخذة راشد له ووجودهم معه في السوق لبيع الأسماك. استضافنا راشد المرزوقي في «دكته» بـ«فنجان قهوة» عربية، قاصّاً علينا بدايته مع البحر وحُبّه لمهنة الصيد ووجَبَات السمك، وكيف أنّ زوجته وابنه وزوجة ابنه شاركوه هذا الـحُـبّ.
راشد المرزوقي.. نُوخذة ابن نوخذة
ويُعتبر النوخذة راشد سعيد المرزوقي، من مواليد دبي، أوّل إماراتي يبيع الأسماك في ميناء أبوظبي.. فهو نوخذة ابن نوخذة، عشق البحر «من أول نظرة»، ففضّله على الدراسة، ولكن إصرار والده على أن يُكمل دراسته كان أقوى من رغبته، فأكمل دراسته وكان أول ملجأ له بعد صفوف الدراسة، شارك والده في جميع رحلات الصيد والإبحار، ومن ثم انفصل عنه بعد شرائه «طرّاداً» بطول 16 قدماً ليتميّز بنفسه، ومع مرور الوقت وصَقْل خبرته في البحر، كان راشد يشتري في كل مرّة «طرّاداً» أكبر، وكان حريصاً على أن يؤمّن جميع سبُل الراحة للفريق الذي يعاونه في رحلاته البحرية، والأفضل من ذلك حرصه على أن يكون هذا الفريق بأكمله إماراتياً. واجه راشد بعض الصعوبات، كان أولها القوانين الصارمة التي وضعتها الدولة، بعد أن تجاوز بعض الصيادين القانون وأصبحت قواربهم تدخُل أحياناً المنشآت النفطية، ويُعلق النوخذة المرزوقي قائلاً: «أواجه القليل من الصعوبات بسبب بعض القرارات الجديدة، إضافة إلى وجوب وجودي على رأس عملي وفي سوق السمك أيضاً، لكن كلام صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، على أن المواطن يستطيع أن يُزاول أي مهنة ويبرع فيها، هو الدافع الذي يجعلني أخدم الإمارات في هذا المجال، لأن وجود المواطن في السوق أولى من وجود الجاليات الآسيوية الأخرى، والإقبال من قبل المواطنين ليكونوا موجودين في السوق ازداد بشكل ملحوظ، وأعمل على تدريب الشباب وتعليمهم التفاصيل كافّة التي تخص الأسماك ونوعياتها وجودتها.
سارة وعبد الله..قصة حُبّ تكتمل بالزواج
سارة طالبة «ماجستير» هندسة ميكانيكية في (جامعة خليفة)، تكون موجودة طوال الأسبوع في أبوظبي بسبب الجامعة، وتعود لمدينة العين في نهاية الأسبوع، لم تُدرك سارة أن زيارتها (سوق الأسماك) في أبوظبي ستجلب لها «عريساً»، وقد لفت نظرها حضور العائلة الإماراتية الموجودة لبيع الأسماك، فتوجهت إليهم على الفور، ولحسن حظّها اشترت منهم أسماكاً بسعر ممتاز، ممّا جعلها تعود إليهم مرة أخرى كلما أرادت شراء السَّمَك. النوخذة راشد كان مُرحّباً جداً بوجود سارة، وعرض عليها أن تعمل معهم بسبب حُبّها وشغفها للصيد والسمك، تقول سارة: «تعلمت من الوالد راشد أسماء أنواع الأسماك والتمييز بين الطازج وغير الطازج، فأصبحت لديّ خبرة في هذا المجال، وأحببتُ وجودي في سوق السمك، فأصبحت أمضي أوقاتي بين السوق والجامعة إلى أن تزوجت عبد الله».
المهندس عبد الله لم يجذبه البحر كما حدث مع والده وجده، ولم يكن موجوداً في البداية في السوق بسبب ظروف العمل، لكنه أعجب بالعمل في السوق بعد أن تعلم الأساسيات، إضافة إلى رؤيته «سارة» التي أعجب بها، وكان مُرحّباً بفكرة وجودها وتعليمها في محلّهم، إلى أن قرّر أن يتزوج، وكانت «سارة» الخيار المناسب.
يقول عبدالله: «ابتعدت عن السوق قليلاً بعد الزواج، لكنني أشرف على المحل عند غياب والدي، أعتبر والدي مصدر إلهام لتركيزه على عمله الوظيفي، والصيد والبيع في السوق في آنٍ واحد، شارك والدي أيضاً في العديد من المسابقات، حيث حقق رقماً قياسياً في الحصول على أكبر سمكة «كنعد» وأكثرها وزناً».
يُضيف عبدالله: «نحن نفكر في تطوير المشروع لنفتتح أكثر من فرع في أنحاء الدولة، ويَكمُن سرّ نجاحنا في اجتماعاتنا الأسبوعية التي أثمرت عن تعاون مع محل لشَيّ وطهو الأسماك، إضافة إلى وجود وطبّاخات إماراتيات يقمن بطبخ السمك على الفور، بأسعار وجودة ممتازة لزبائننا، إضافة إلى الطبَخات التي نطبخها في المنزل، ومن ثم نقوم باستقبال الطلبات وتوصيلها إلى المنازل، وبفضل الله كسبنا ثقة الزبائن وشعبية كبيرة، وذلك بفضل جودة اختيار وطبخ السمك».
أم سارة: وجودي يُشجّع النساء على شراء السمك
أحبّت سوق الأسماك بسبب زوجها، وأصبحت أول امرأة تبيع الأسماك في السوق، ممّا شجع النساء خصوصاً كبيرات السن، على القدوم إلى السوق والسؤال عن الأسماك وأنواعها وكيفيّة شراء الجيدة منها، أيضاً كان مُحفّزاً للنساء بأن يقمن بالطلب من «السردال».
وقد واجهت «أم سارة» التي تُشرف على الطبخ والبيع، وكذلك توصيل الطلبات إلى الزبائن، بعض الانتقادات، التي ترى أن وجودها في سوق السمك بين الرجال غير مُحَبَّذ، لكنها أصرت على أن نجاح العمل العائلي الملهم الذي يقومون به، كان دافعها للاستمرار والتطوير.
وتؤمن «أم سارة» بأن المرأة تُثبت وجودها في المجالات كافة، حتى إن كانت في سوق السمك.
وتقول: «زوجي هو المحفّز الأول لنا جميعاً، عندما نراه يجتهد للنجاح في هذا العمل نحاول قدر الإمكان أن نعاونه، لأننا نَعْلَم مقدار الجهد الذي يبذله، لذا ساندناهُ من خلال دخولنا مواقع التواصل الاجتماعي، للوصول إلى شريحة أكبر من الزبائن، فكنّا نعرض أنواع الأسماك وجودتها وأسعارها يومياً. أما بالنسبة إلى فنّ الطبخ، فهي هواية أتقنتها مع زوجي، وأضفناها إلى بيع الأسماك، فأصبحنا نقوم بالبيع والطبخ وتوصيل الطلبات».
وتختتم «أم سارة» قائلة: «مصداقيّتنا في البيع سرّ نجاحنا، لأننا لا نَقبَل الغشّ أو بيع أسماك الأمس على أنها أسماك اليوم، وأقول للشباب الذين يحبّون البحر والراغبون في تَعلُّم آليّة العمل، نحنُ نرحّب بكم بصدر رحب، سندعمكم ونعلّمكم إلى أن تبدؤون مشروعكم الخاص».