#ثقافة وفنون
طارق الشناوي 22 ديسمبر 2012
ماذا تعني جائزة الجمهور؟ في كل مهرجانات الدنيا، أصبحت للناس قوة في تحديد الفائز بجائزة أفضل فيلم حتى لا تُصبح جوائز لجان التحكيم هي الفيصل الوحيد في تحديد الأفضل. مهرجان "دبي" أول مهرجان خليجي يضع هذه الجائزة بين فعالياته وانتقلت إلى كل المهرجانات الأخرى. لكن السؤال: ما الذي تعنيه هذه الجائزة؟ معايير تقييم الناس ليست هي بالضرورة معايير تحكيم اللجان المتخصصة. الناس يحددون الفائز بمشاعرهم وقلبهم بعيداً عن أي تمحيص تقني وفني بينما تتوقف لجان التحكيم أمام التفاصيل. وربما لهذا السبب كانت الجائزة التي منحتها الجماهير للفيلم الروائي من نصيب "بيكاس"، بينما خلت كل الجوائز الأخرى من اسم هذا الفيلم. بالفعل، كانت هناك حالة من التواصل في المشاعر بين الجمهور والطفلين بطلي الفيلم، بينما الحالة السينمائية التي حققها المخرج لم ترق في تفاصيلها لما أنجزته المشاعر. ولهذا ربما خاصمته جوائز لجنة التحكيم. يروي الفيلم بعيون الشقيقين الطفلين مأساة الأكراد الذين يشكّلون قومية لها كل مظاهر القوميات من لغة وفن وعادات وتقاليد وتاريخ وأساطير، لكنهم مشتّتون بين أكثر من دولة كتركيا وإيران وسوريا ولبنان والعراق. المقاومة التي ينتهجها الأكراد للبقاء هي سلاح الهوية، فاللغة هي واحدة من أمضى الأسلحة ولإعلان الحياة. ولهذا فإنك تكتشف دوماً خصوصاً في السنوات الأخيرة أنّ العديد من المهرجانات ضمّت أفلاماً باللغة الكردية منسوبة إلى إقليم كُردستان في شمال العراق. أفلام يصنعها أكراد تحكي عن هؤلاء المشرّدين وأيضاً المستبعدين من أكثر من نظام سياسي. إلا أنّه في فيلم "بيكاس"، يضع المخرج كرزان قادر مأساة الأكراد لتصبح إنجيلاً يروي قهر الأوطان في كل زمان ومكان. "بيكاس" تعني بالكردية "من لا أهل له". تمكن المخرج من المحافظة على تدفق وتلقائية الطفلين اللذين أسند لهما البطولة في هذا الفيلم الذي تجري أحداثه في التسعينيات في عز إحكام صدام حسين قبضته على العراقيين. وهكذا تجرّع الأكراد العذاب مرتين، الأولى لأنّهم عراقيون والثانية لتمسكهم بقوميتهم الكردية. لا تملك على وجه الدقة أن تحدد إلى أي مدى كان المخرج يروي شيئاً من حياته. ربما كان جزء من الشريط يحمل ما كابده وعاناه في ظل حاكم لا يرى سوى العنف والقهر والدموية. نحن مع طفلين يعيشان بلا عائلة وليس أمامها سوى التكسب من مسح الأحذية. حلم الأطفال هو مشاهدة السينما وليس لديهما ما يكفي لقطع التذكرة، فلا يبقى سوى التسلل إلى دار العرض بما يحمله الأمر من مخاطرة. يتجسد أمامهما حلم بالخلاص من خلال شريط السينما في شخصية سوبرمان البطل الأسطوري. إنه الوحيد القادر على تحدّي صدام. وداخل مخيلة الطفلين، يكبر التساؤل: هل يقهر سوبرمان صدام حسين؟ لا يكتفي الطفلان بهذا القدر بل يحلمان بالسفر إلى أميركا للقاء سوبرمان. يقرران السفر مع أنهما لا يملكان جوازاً ولا نقوداً. حمار فقط هو وسيلة المواصلات الوحيدة المتاحة أمامهما كي يمسكا الحلم بأيديهم. اللحظة الفارقة هي تلك التي يشعر الأخ الأصغر بأنّه معرض لفقدان شقيقه الكبير آخر إنسان له في الوجود. يعتقد أنه وضع قدمه على لغم ولا يستطيع الحركة خوفاً من انفجاره وفي الوقت عينه يحاول إنقاذ شقيقه الصغير بأن يطلب منه الابتعاد عن المكان. وينتهي الفيلم بأن يرجئا حلم السفر ويكتشف كل منهما أنّ بداخله من فيض الحب والعطاء سوبرمان. الحوار الذي يلتقط مفردات وأحلام ومخاوف وشغب الأطفال كان هو نبض الفيلم. الموسيقى التي ترسم إحساساً بخصوصية الزمان والمكان والإحساس. الفيلم يحوي كل التفاصيل الكردية لكنه يستطيع أن يقفز خارج حدود كردستان لترى وجهاً آخر للصورة وهو الحالة التي يعيشها البشر، فكلنا أينما كنا أمام القهر لا نملك غير الحلم الكاذب. ولكن في لحظة ما، قد تتوجه نظرتك إلى الواقع، فلقد اكتشف الطفل في النهاية أنّ بقاء شقيقه على قيد الحياة هو الحلم الذي لا يستطيع العيش من دونه. العراق الآن ليس بالتأكيد العراق أيام صدام، والفيلم لم يكن يعنيه أن يفضح دموية صدام. هو لا يقلّب في الصفحات القديمة كما لا يتوقف أمام الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني والنفسي والعرقي الذي يعيشه العراق بعد إزاحة صدام. الهدف أبعد بكثير من كل ذلك. إنه يبحث عن الهوية الكردية من خلال عيون طفلين تصورا أنّ الحلم بالجنة خارج الوطن فاكتشفا أنّ الجنة هي الوطن. كان تصفيق الجمهور في نهاية عرض الفيلم هو الطريق للجائزة. وعندما صعد الطفلان إلى خشبة مسرح "مدينة السلام" مساء إعلان اقتناص الفيلم لجائزة الجمهور وهما يرتديان الزي الكردي التقليدي، تأكدت رسالة أخرى للفيلم وهي التأكيد على هوية الأكراد.