#ثقافة وفنون
كارمن العسيلي 18 فبراير 2025
كيف يمكن للعمارة أن تعيد تشكيل علاقتنا بالمدينة والمجتمع؟.. هذا السؤال يتردد بقوة في أعمال المهندس الياباني ريكن ياماموتو، الذي استطاع أن يترك بصمة استثنائية في عالم التصميم المعماري، ما جعله يستحق جائزة «بريتزكر» المرموقة في مجال الهندسة المعمارية لعام 2024، إلى جانب تكريمه بجائزة مهرجان أبوظبي 2025.
منذ بداياته، التزم ياماموتو بإعادة التفكير في مفهوم السكن والمدينة، متسائلًا عن كيفية تعزيز الروابط الاجتماعية داخل المساحات الحضرية. فمشاريعه، من المساكن الجماعية إلى المؤسسات الأكاديمية، تعكس فلسفة معمارية عميقة، تهدف إلى تحقيق التوازن بين الاستقلالية الفردية والتكامل المجتمعي، إلى جانب الدمج بين الحداثة والبعد الإنساني، لإنشاء أماكن تنبض بالحياة.
في هذه المقابلة، نغوص في فكر ياماموتو، ونتعرف على فلسفته التصميمية، ورؤيته لمستقبل العمارة، خاصة في العالم العربي، حيث يلتقي التراث بالحاضر في معادلة متجددة من الإبداع والابتكار.
-
مشروع Gazabo
- كيف تعرّف دور العمارة في تعزيز التواصل الإنساني، ودفع عجلة التقدم الاجتماعي؟
نحن لا نرى العمارة كبناء هياكل فحسب، وإنما لغة تعبير تُترجم العلاقة بين الإنسان والبيئة والمجتمع. نحن، كمعماريين، نصمم دائمًا مع مراعاة العلاقة مع البيئة المحيطة. بمعنى آخر، نصمم بما يتماشى مع المجتمع المحلي، ونفكر في كيفية تفاعل الناس مع الفضاءات التي نبتكرها. العمارة الجيدة تنشئ بيئات تحفز التفاعل الاجتماعي، وتعزز الإحساس بالانتماء، وتدعم التقدم من خلال تصميم مساحات تلبي احتياجات الأفراد، وتتماشى مع هويتهم الثقافية.
- ما أبرز التحديات الاجتماعية، التي تواجهها العمارة اليوم؟
أعتقد أن العمارة اليوم أمام تحدٍّ مزدوج: معالجة الفقر، وتعزيز الحرية في المساحات التي نصممها. فكيف يمكننا إنشاء بيئات توفر فرصًا للجميع، دون أن تصبح حكرًا على فئة معينة؟.. وكيف نوازن بين تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان الاستدامة الاقتصادية؟.. هذان السؤالان يمثلان جوهر التحديات التي تواجهنا، حيث لا يكفي أن نبني هياكل جميلة، بل يجب أن نصمم فضاءات تساهم في إنشاء مجتمعات أكثر عدالة واندماجًا.
- كيف يمكنك تحقيق التوازن بين الاستدامة البيئية ورفاهية الإنسان في تصميمك للمباني؟
لا تقتصر الاستدامة على استخدام مواد صديقة للبيئة، أو تطبيق تقنيات موفرة للطاقة، وإنما تشمل أيضاً رؤية متكاملة تضع الإنسان في قلب التصميم. العمارة المستدامة تعني إنشاء مساحات تُحترم فيها الطبيعة، وتُعزز جودة الحياة، وتُوفر بيئة صحية ومتجددة. فالإرادة الجماعية للعيش في تناغم مع محيطنا تجعل الاستدامة ممكنة، فالمباني ليست كائنات معزولة، بل جزء من نظام بيئي واجتماعي أوسع، يجب أن يعمل بتناغم لتحقيق مستقبل أفضل.
- كيف يمكن للعمارة أن تنشئ بيئات مجتمعية، دون المساس بالخصوصية الفردية؟
الخصوصية ليست نقيضًا للحياة المجتمعية، بل جزء لا يتجزأ منها. فالقدرة على التمتع بخصوصية فردية لا تتحقق إلا ضمن مجتمع واعٍ بأهمية المساحات المشتركة. وأعتقد أن العمارة الناجحة لا تفرض توازنًا بين هذين الجانبين، بل تفهم العلاقة الديناميكية بينهما، فتبتكر فضاءات تمنح الأفراد حرية العيش ضمن نسيج اجتماعي متكامل دون المساس باستقلاليتهم.
-
جامعة Saitama
- كيف تضمن أن تخدم تصاميمك أجيالًا متعددة، وتتكيف مع تغيرات المجتمع؟
إن مفهوم العمارة يعكس الحاضر، لكنه أيضاً رمز لنقل الذكريات من جيل إلى آخر. فكل مبنى يصمم ليكون جزءًا من عملية انتقال مستمرة، فينقل المعارف والتجارب بين الأجيال. والتصميم القابل للتكيف هو مفتاح الاستدامة العمرانية، حيث يجب أن تملك المباني مرونة في الاستخدام والتطور، بما يواكب احتياجات المجتمع المتغيرة.
- ما دور المعماريين في مواجهة تحديات، مثل: شيخوخة السكان، وإعادة الإعمار بعد الكوارث؟
إن إنشاء عمارة مستدامة بحد ذاته هو استجابة لهذه التحديات. وسواء كنا نتعامل مع شيخوخة السكان، أو إعادة الإعمار بعد الكوارث، فإن الحلول المعمارية يجب أن تكون موجهة نحو تمكين الأفراد، وتعزيز قدرتهم على التأقلم. فالتصميم الجيد لا يتعلق فقط بالبناء، بل بإنشاء بيئات تدعم المجتمعات في مراحل تحولها المختلفة.
- بعد زلزال شرق اليابان العظيم عام 2011، أسستَ مختبر «الجمهورية المحلية»؛ لدعم إعادة إحياء المجتمع.. ما الدروس التي استخلصتها من هذه التجربة؟
الكوارث غالبًا ما تدفع إلى حلول خارجية، تعيد بناء المناطق وفق رؤى مفروضة من الخارج، ما قد يقوّض هوية المجتمع المحلي واستقلاليته. وما تعلمته من هذه التجربة هو أن إعادة الإعمار الحقيقية لا تبدأ بالبنية التحتية فقط، بل بتمكين السكان من استعادة زمام المبادرة وإعادة تشكيل محيطهم بقوتهم الذاتية. فالمجتمع القادر على إعادة البناء بنفسه هو مجتمع أكثر تماسكًا واستدامة.
- في عالم يزداد عولمة.. كيف يمكن للعمارة أن توازن بين الحفاظ على التقاليد المحلية واحتضان الابتكار الحديث؟
مع تسارع العولمة، هناك خطر فقدان الهوية المحلية لصالح توجهات موحّدة عالميًا. لهذا، أرى أن الحل يكمن في تعزيز الاقتصاد المحلي، بدلًا من الارتهان للاقتصاد العالمي. ولا يمكن اعتبار التقاليد موروثاً جامداً، وإنما هي نتاج مجتمعات نابضة بالحياة، تنتقل وتُعاد صياغتها عبر الأجيال، ولا يمكن إعادة إنتاجها في سياق عالمي مجرد.
- تتنوع مشاريعك بين الجامعات، والمساحات العامة، والإسكان.. كيف تتكيف استراتيجياتك التصميمية مع هذه الفئات المختلفة؟
على الرغم من اختلاف طبيعة المشاريع، فإن القاسم المشترك في جميع تصاميمي هو العلاقة الوثيقة مع المجتمع المحلي. فأتعامل مع كل مشروع كجزء من نسيج حضري وثقافي، حيث لا أفرض رؤية معمارية مجردة، بل أستجيب لحاجات الناس والسياق المحيط، ما يمنح كل مشروع طابعه الفريد.
-
مجمع Pangyo الإسكاني
- هل يمكنك مشاركة بعض مشاريعك، التي تجسد فلسفتك المعمارية بأفضل شكل؟
على مر الزمن، تركت عدة مشاريع بصمات مختلفة، وكل منها يعكس مرحلة فكرية محددة. ومن بين المشاريع الأكثر تأثيرًا: «GAZEBO»، ومجمع «Hotakubo» الإسكاني، ومدرسة «Iwadeyama» الإعدادية، وجامعة «Saitama Prefectural»، ومجمع «Pangyo» الإسكاني. كل مشروع من هذه المشاريع كان تعبيرًا عن رؤيتي لكيفية تفاعل العمارة مع بيئتها ومجتمعها.
- ماذا يعني لك الفوز بجائزة «بريتزكر» للعمارة لعام 2024؟
الجائزة أكثر من تكريم شخصي، فهي مسؤولية تجاه المجتمع المعماري والعالم. فبناء مجتمعات محلية نابضة بالحياة ومستقلة، ونقل هذه الرؤية إلى الأجيال القادمة، أعتبرهما جوهر هذه الجائزة، وأهميتها الحقيقية.
- ما النصيحة التي تقدمها للمعماريين الشباب، الذين يسعون إلى إبداع تصاميم ذات بعد إنساني؟
أهم ما أنصح به، هو أن يتجاوزوا فكرة تصميم المباني ككيانات مستقلة، وأن يفكروا في علاقتها بالسياق الذي تحتضنه، سواء كان بيئة طبيعية، أو نسيجًا عمرانيًا، أو مجتمعًا بشريًا. فالعمارة الحقيقية ليست في الجدران، بل في الحياة التي تنبض بينها.
- ما الخطوة التالية بالنسبة لك.. هل هناك مشاريع أو أفكار مستقبلية تثير حماستك بشكل خاص؟
أنا متحمس جدًا لاستكشاف مشاريع جديدة، بالتعاون مع مجتمع أبوظبي، فالعمل ضمن بيئة ذات تاريخ غني ومستقبل طموح يفتح آفاقًا معمارية غير مسبوقة.
- حدثنا عن مشاركتك في مهرجان أبوظبي 2025، ولقائك مع الطلاب هناك!
أرى في الحوار مع الطلاب والمبدعين الشباب فرصة لنقل رؤيتي المعمارية إلى الجيل القادم. ومشاركتي في مهرجان أبوظبي 2025 امتداد لمسؤوليتي في المساهمة ببناء مجتمعات متكاملة ومستدامة. ونيل جائزة المهرجان شرف كبير بالنسبة لي، وأعتبرها حافزًا إضافيًا لمواصلة تطوير الفكر المعماري القائم على الهوية والاستدامة.