#مقالات رأي
لولوة المنصوري 1 يونيو 2024
لعل من أصعب اختبارات الحياة مرحلة «مفترق الطرق»، إذ تبدو الحيرة كجبل ثقيل على روحك، والمصائر في طيّ الغيب، لا تعلم ما الذي بإمكانك العثور عليه؛ بعد إحداث القفزة! مرتبكاً.. تغزوك المخاوف، وتطفح على السطح ترسبات قديمة، وتشعر كأنَّ جداراً اسمنتياً قد سقط على صدرك، فيُشلّ حركتك، أو ينبئك بالكثير من المخاطر، تشك في الطرقات ومفترقاتها، التي تبدو - في وهمك - ظلاميةً، تودُّ لو أنك تختفي، ولا تظهر أبداً في هذا البعد الأرضي المؤلم، تختفي تماماً عن قصتك، وقد تبدو هذه الأمنية أشبه بمحاولة الهروب من المسؤولية، مسؤولية حياتك التي تقتضي أن تكون على رأس البطولة، والقيادة.
كنتُ أُفكّر، قبل أن أكتب عن هذه الحالة، في قصتين متفاوتتين في الشخصية والمصير، ومشتركتين في الوصول إلى مرحلة «مفترق الطرق»، والقرار: الأولى تتجلى في قصة: «ضفة النهر الثالثة» للبرازيلي جو أوجويماريس روزا، والأخرى في سيرة نيكوس كازانتازاكس «تقرير إلى غوريكو».
في الأولى، حدث أن فاجأ الأب عائلته باتخاذ قرار صامت غريب، فصعد إلى المركب، وأرخى الحبال، ثم راح يجدّف في النهر، وتناءى مع ظله، طويلاً طويلاً، مثل تمساح.
إن التصور الزمني قد بلغ أقصى ما كان محتملاً، فحقيقةً.. لم يعد الأب إلى البيت، ولم يذهب إلى أيّ مكان أبداً، فقد ظلّ معانداً مبالغاً في عُزلته، عالقاً في فضاءات النّهر، في منتصف المسافة، ثابتاً في المركب لا يفارقه أبداً. ثم امتدّت سنوات البقاء في «اللازمن»، فما عاد أحد يَذْكر في أي زمن دخل الأب إلى النّهر، وما عاد السؤال عن سبب الغياب النهري مركز التداول والمواجهة بين أحاديث العائلة.
وفي المقابل، أتساءل دائماً: ماذا لو استجاب نيكوس كازانتازاكس لفرصة الهروب من بلاده المنكوبة، بصحبة المرأة القوقازية «باربرا»؟.. يذكر كازانتازاكس، في سيرته «تقرير إلى غوريكو»، شموخ «باربرا» على ضفة البحر الأسود في «باتوم»، كتمثال عتيق للحُب والسلام في «القفقاس»، فكّت الشريط الحريري الملتف على رأسها، فانسدل الشعر المُزرق طويلاً وأبدياً. وأغمضت عينيها، وهتفت: «أمسك بي من شعري يا نيكوس، ولنقفز في القارب..».
ماذا لو أمسك كازانتازاكس بتلك اللحظة الفريدة؟.. لحظة الهذيان في النعيم؛ حينما اخترق الصدى قوسُ المشيئة، ماذا لو أمسك بشعرها، الذي انسدل منه سحر السهل، ورائحة العشب، وطواحين الوديان، وأبحرت عليه قوارب الغوث والسفر الطويل العميق إلى بدايات غامرة ببدايات أخرى مجهولة، وبلا مآل محدد؟
فكان شعرها الطويل هو الوثيقة، الوجود الطاقي لمعبر السلام النافذ نحو مطلق النجاة، وبها بوابة الهرب، والاندفاع إلى الغيب، ورغم أن القارب كان منتظراً مباركة اللحظة، وكان البحر، ظل كازانتازاكس، ساكناً منتظراً ولادة الحدث القدريّ، ظلّ جامداً في النص، ساكناً بذهول حتى هذه اللحظة، شاحباً متطلعاً بحسرة إلى البحر، إلى أن تلاشى السّحر من أمامه.. ولفّت المرأة القارب في شعرها، واختفت إلى الأبد.