#مقالات رأي
د. نرمين نحمدالله 13 ابريل 2024
حكت لي إحداهن أنها، في طفولتها، رأت البحر قبل أن تراه!!
سمعت صوته في أذنيها، قبل أن تعرف شكل أمواجه!!
رفيق طفولتها أهداها «صَدَفةً»، عاد بها من رحلته إلى البحر.. سدَّ بها أذنها، ودعاها لأن تغمض عينيها..
كانت أول معجزة يتلقفها قلبها، وهي تسمع حقاً صوت البحر!
عبر عينيها المغمضتين، رأت «النورس» فوقها.. شعرت بـ«دغدغة» الموج لكاحلَيْها.. شمت تلك الرائحة، التي عبق صدرها بها.. عرفت لأول مرة كيف يمكن أن تطير إلى عالم آخر في لحظات.. حتى إن اختفى هذا العالم بمجرد أن تفتح عينيها، وتبعد «الصَّدَفة» عن أذنها!!
كبرت الطفلة، وفهمت أنها لم تكن معجزة، وأن للأمر تفسيراً فيزيائياً ما!.. رحل رفيق الطفولة فجأة، وانقطعت أخباره، تاركاً لها ندبة في القلب، وجحيم أسئلة تشكو ضياع إجاباتها، وكنزاً قديماً من ذكرياتٍ، هما وحدهما يملكان مفتاحه، و«صَدَفة»!.. «صَدفة» ألقتها ذات يوم غاضبة، وهي تريد تكسيرها؛ كي لا تطير بها على جناح خساراتها.. لكنها لم تستطع! فلا تزال تحتفظ بها؛ كي تحملها إلى البحر البعيد متى شاءت.. كي تُذكّرها بأن معجزة طرقت باب قلبها يوماً ما.. قد لا يعود الراحل، وقد لا يعتذر المسيء، لكنها اختارت أن تحتفظ منه بزهرة تعلقها على حائط قلبها؛ لعلها حين تذكر اسمه يوماً.. تبتسم!
تذكرتُ هذا اليوم، وأنا أستمع صُدفة لواحدة من تلك الأغاني المنتشرة، التي تتوعد الحبيب الراحل بالندم والتشفي.. لم أستسغ يوماً مثل هذه الأغاني!.. لم أتقبل أبداً فكرة أن تصفع الكفُّ التي لطالما كانت تربت.. فالذراع التي كانت تطوي الدنيا كلها في دفء عناق، كيف تنبت لها قبضة تلكم وتدمي؟!
لماذا يصر بعضهم على أن يحرق السفن كاملة بعد الفراق؟!.. لماذا يهدمون كل الجسور، ويلوثون النهر الذي لطالما شربوا منه؟!.. أما بقي لديهم ولو «رنين صَدَفة» يريدون ادخاره في خزانة الذكريات؟!
لماذا نُدخل على اللحن العذب القديم نغمة نشازاً؟!.. أما يكفي أن نتوقف فقط عن العزف، ونترك للقلب «رنين صدفة» يجترُّ مذاقها؛ كلما داعبه نسيم الحنين؟!
لماذا يجب أن تتشوه كل الذكريات الحلوة؟!.. أن تحمل الكتف التي لطالما سندت جباهنا وقت حزننا أوزار عتابنا ولعناتنا؟!.. لماذا لا نشطب الفصل الأخير المبكي من الرواية؛ كي يمكننا إعادة قراءتها مبتسمين في ما بعد، حتى وإن بقيت ناقصة؟!!
سلامٌ لكل من مرَّ في طريق قلوبنا.. من أوفى فكان في العتمة شمساً، أو غدر فكان للغد درساً.. كفانا أنه ترك لنا «رنين صدَفة»؛ جعلت القلب يوماً يؤمن بالمعجزات!.. فبمثل هذا نحيا.. لأجل هذا نحيا.. بقدر هذا نحيا!