مليكة أحمد 6 نوفمبر 2019
أحياناً نفكر في الابتعاد قليلاً عن الجوّ الروتيني الذي يهجم علينا مخلفاً ضغوطاً لا نقدر على التخلص منها، إلا إذا لجأنا إلى الهدوء والسكينة، ومن أجل تحقيق ذلك عليك الذهاب إلى هناك، حيث لن تسمع في هذا المكان الرائع سوى صدى الصوت حين يمتزج بصوت الطبيعة، فيه من البرجوازية ما يجعلك تعيشها ومن سحر الطبيعة ما يدفعك إلى التحليق مع طيورها.. قرية «شامويه» الفرنسية ستمنحك الشعور بكلّ ذلك.
على الرغم من صغر مساحتها، تزخر شامويه بتاريخ مشبع بالأحداث، حيث يعود تاريخ وجودها إلى القرن الثاني عشر، صاحبت واحدة من أجمل المراحل التي مرت بها فرنسا، وهي فترة الحكم البرجوازي، كان يطلق عليها في السابق اسم قرية «كاموليا»، حمل حاكمها فالبير فيكونتي لقب «سيد الأسقفية والمارشال»، الذي مارس حكمه منذ عام 1140 في دير وكنيسة «سانت فينسون» في لاوون بشكل مطلق حتى عام 1184، حين ضمها ملك فرنسا فيليب أوغست ضمن أملاكه، فمنح سكانها وأهاليها حق الانضمام إلى فيدرالية اتحاد البلديات في سيرني، وبقيت كذلك حتى شرائها في أواخر القرن السادس عشر من قبل عائلة «شامبليه»، أحد ملاك سلسلة كبيرة من مزارع مقاطعة «أكادي» بداية من عام 1673 حتى عام 1677، لتنتقل الملكية بعدها إلى عائلة «إسبيناي» التي مكثت فيها حتى قيام الثورة الفرنسية عام 1789، بعدها وخلال الحرب العالمية سقطت قرية شامويه تحت السيطرة الألمانية، فموقعها كان استراتيجياً، وقد لحقت بها إبان هذه الفترة أضرار كثيرة دمرت على أثرها العديد من الكنائس والبيوت، ولكن ما لبثت أعمال البناء والترميم أن تبدأ بالقرية فوراً بعد انسحاب الألمان عام 1917.
سكون الطبيعة
لطالما اعتبرت شامويه الملاذ المفضل للباحثين عن الهدوء والسكينة وراحة البال، فكلّ زاوية في هذه القرية، تدعوك للتأمل في سكون طبيعتها الساحرة، ولا يخفى عليكم ضمها لثالث أكبر حديقة في فرنسا، تدعى باسم حديقة «إيزن»، التي تضم بدورها بحيرة «آليت» الشاسعة، يقبل عليها المصطافون من كل مكان في فرنسا وخارجها، حيث تخصص رياضات بحرية، وأنشطة ترفيهية عديدة أبرزها رياضة التجديف، ومسابقة القوارب الشراعية، إضافة إلى عدد من الألعاب المائية، والاستمتاع بصيد الأسماك الطازجة منها، وقد تم افتتاح بحيرة آليت، التي تقع بقلب حديقة إيزن الغابية عام 2007، وتغطي مساحة 140 هكتاراً، تضم في أطرافها ميناء صغيراً وعدداً من الشواطئ المخصصة لاستقبال السياح من نزلاء الفنادق مترامية الأطراف على ضفاف البحرية، أبرزها فندق «خليج آليت» الفخم، الذي يقدم لنزلائه تذاكر الدخول إلى حديقة آليت المائية مجاناً، يقال إنه محظوظ جداً من يسكن في هذا الفندق الفخم، فغرفه الواسعة تضم شرفات مطلة على البحيرة، ترسم عليها طيور النورس المحلقة والبجع والبط الذي يطفو على وجه البحيرة لوحة بانورامية عجيبة، وخاصة عند وقت الغروب والشروق حين يتسلل أول خيوط الشمس إلى تلك النوافذ المشرعة نحو الطبيعة وصوتها الدافئ.
رائحة الخبز الريفي
يمكنكم التجول في هذه القرية الصغيرة، لاكتشاف العديد من الأماكن التي من شأنها أن تجعل يومكم مفعماً بالهدوء والسكينة، التي تبعثها الحياة الريفية للأهالي هناك، وأنتم تتجولون ستستمتعون بروائح الخبز الريفي الطازج «بان دي كومبان»، الذي تشتهر به قرية شامويه أكثر من أي مكان في فرنسا، خاصة أنه يخبز من حبوب القمح الغنية بالألياف، فحقول القمح تكاد تبهر جميع من رآها، هكتارات من الأراضي المزينة بالسنابل وهي ترقص شامخة، في إمكانكم التقاط أجمل الصور فيها، وخاصة في فترة موسم الربيع، حيث تكون مخضرة، وتمتد تلك الحقول حتى منطقة «ريمس» الواقعة على بعد 45 كم من القرية، اشتهرت بملعب «أوغست ديلون»، وتربض فيها أجمل كاتدرائية «سانت ريمي»، وقصر «توي»، الذي تم فيه تصوير العديد من الأفلام الفرنسية.
لن تتوقف زياراتكم في ريمس، فمنطقة «سواسون» الأقرب إلى قرية شامويه، ستسحركم بتاريخها العريض الذي يمتدّ إلى العصور الوسطى وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من القرية، فيها سلسلة كبيرة من المتاحف والحدائق الأثرية، ومثل صاحبتها تضمّ بيوتاً ذات واجهات ملونة تطلّ على خليج آليت الجميل.
أجمل ما يميز شامويه ارتفاعها الذي يصل إلى 110 أمتار، وارتباطها الوثيق بمجرى نهرين رئيسيين في فرنسا ومنطقة البيكاردي، وهما نهر «إيليتتي» وجدول «بيلفيري» المائي، اللذان يصبان في أفلاج الحديقة الوطنية الإقليمية لجبال «ريمس»، هذه الحديقة الغابية الكثيفة تربض على هكتارات شاسعة من الأراضي، وتضم في قلبها ملعباً ضخماً لممارسة رياضة «الجولف». يقابلها من الجهة الأخرى منطقة مليئة بالأكواخ، يتمّ تأجيرها لفئة نوعية من السياح الباحثين عن الهدوء والطبيعة، ويزين المنطقة كل من فندقي «سنتر بارك»، و«الجولف آيليت ريليه» الأبيض بقرميده الأزرق المتناغم ولون البحيرة، يتربعان على واجهة البحيرة من جهة الشمال.
يمكنكم أن تعيشوا لحظات من التشويق والمغامرة، واسترجاع ذكريات طرق العيش البرجوازية الفرنسية في العصور الوسطى، من خلال زيارة مبنى البلدية حالياً «فيرم دو شاتوه»، الذي كان في الماضي البعيد قصراً فخماً تسكنه كبرى العائلات الثرية في ذلك العهد الجميل، فيه مزرعة شاسعة المساحة، سمي القصر باسمها، كانت تحوي عدداً كبيراً من المواشي والحيوانات، التي كان يعتمد عليها أهل القصر في المأكل والمشرب، تقع بقربه محطة القطارات، وأكاديمية التعليم التي تستحق الزيارة فعلاً، كانت في السابق داراً للأيتام وبقيت كذلك حتى عام 2002.
مهرجانات
تكاد المهرجانات والفعاليات لا تنقطع عن قرية شامويه، حيث يعكف سكانها على إحياء تراثهم سنوياً، وفي مواسم عديدة، وخاصة في الفترة الممتدة بين شهري أغسطس حتى آخر ديسمبر، بدءأً بموسم الحصاد، والاحتفال بيوم الخبز الريفي، يعرض فيه الأهالي ونساء الريف أجمل ما تصنع أيديهم من خبز «لا كومبان» الشهي والمصنوع من الذرة والقمح.
يليه في شهر سبتمبر مهرجان السيرك، الذي يصاحب فعاليات مهرجان لاوون، يقوم المشتركون فيه بنصب خيمة كبيرة وسط الغابة، يقومون فيه بعروض كبيرة ومختلفة، تتنوع بين العروض البهلوانية المضحكة، وعروض خفة اليد، ومهارات أخرى مذهلة.
أما مهرجان العصور الوسطى، حيث تحيي فيه الفترة البرجوازية التي مرت بالقرية، فتقوم النساء بارتداء أجمل الثياب والحلل يتم تحضيرها مسبقاً للمناسبة، ثياب أميرات فضفاضة مع باروكات للشعر تجعلك تصدق لوهلة أنك موجود وسط ذلك المجتمع البرجوازي المخملي، تشارك المهرجان استعراضات رائعة لمجموعة من الأحصنة ترتدي رداء حربياً يمتطيها فرسان يحملون رماحاً وذرائع شبيهة بتلك التي يرتديها الشجعان من الأمراء والفرسان في القرن الثاني عشر، وتقام بحضور جميع الأهالي وسط تصفيق وذهول السياح والمارين بجانب قلعة الحصن الأسطورية في شامويه.
ولمحبي الموسيقى الباروكية الشعبية نصيب، حيث يقام مهرجان «بيكارت»، وسط جوّ بهيج وصاخب تتبعه حفلات رقص جنونية للأهالي، يعتمدون فيها على قرع الأحذية والتصفيق والدوران وتبادل الأدوار مع كل الموجودين بالمكان من كل الفئات والأعمار.
كما تصاحب مهرجان الموسيقى فعالية الرياضات البحرية، التي تستقطب العديد من المشاركين من مختلف الدول، وخاصة تلك المتعلقة بمسابقة التجديف، والقوارب الشراعية، حيث تمرّ المنافسات في جوّ ساحر، تطلق فيه الألعاب النارية ويتوج الفائز بجوائز قيمة.