مليكة أحمد 9 سبتمبر 2019
مدينة بلوفديف في بلغاريا.. من أجمل الوجهات التي يفضل اختيارها، ليس من أجل ظلال أشجارها الوارفة، التي تمنع حرارة أشعة الشمس الأوروبية من التسرب إلى الأجساد المترامية في شوارعها ومناطقها الريفية فحسب، ولا من أجل اللقب الذي منحته لها منظمة اليونسكو بوصفها من أقدم وأعرق المدن الأوروبية وتشبيهها بمدينة أثينا في اليونان، ولا لاختيارها عاصمة الثقافة لهذا العام، ولا باعتبارها أيضاً وجهة رئيسية لألمع نجوم الفن والأدب في العالم، بل لذلك الفضول الذي يجعلكم تهرعون لاكتشاف موقعها الجغرافي الاستراتيجي المميز، والمبني حول سبعة تلال شاهقة.
تقع بلوفديف في الجنوب الشرقي لأوروبا على بعد حوالي 150 كيلومتراً شرق العاصمة البلغارية صوفيا، وتحلّ في المرتبة الثانية بعدها من حيث المساحة. ستختصر زيارتكم لها التاريخ العريض لواحدة من مدن البلقان، وكيف كانت في الماضي البعيد، يمتدّ تاريخها إلى عام 4000 قبل الميلاد، وتعاقبت عليها حضارات متنوعة ومختلفة، مازالت تخبئ بين أحضانها كنوزاً أثرية مهمة يعودّ تاريخها إلى ما قبل القرن الـ20، ومعالم أخرى غنية بمزيج من الحضارة الشرق والغرب تستحضر التاريخ، وتجعله نصب أعينكم، وبلوفديف هي المحرك الرئيسي للقطاع الصناعي في بلغاريا، حيث غالباً ما تكون المنظمة الرئيسية لأكبر المعارض التجارية والصناعية في بلغاريا، وحتى على المستوى الأوروبي والدولي.
7 تلال
لكلّ مدينة سحرها الذي يميزها، وبلوفديف إحدى تلك المدن القديمة التي تتنفس تاريخاً وحضارة، كان للإمبراطور «سيبتيموس سيفيروس» الحق باختياره لها، كمقر للإمبراطورية الرومانية بعد أثينا، وقد حكمها في الفترة الممتدة بين 193 حتى 211، وأطلق عليها اسم «تريمونتيوم»، فتربعها الجميل قرب وادي «ثراس» وسط سبعة تلال، جعلها تحظى ببيئة طبيعية ساحرة، ستلاحظون ذلك في كلّ زاوية من شوارعها القديمة الضيقة، فالتاريخ لا يغيب عن ألسنة الأهالي الذين يعشقون مدينتهم بشكل لافت للنظر، فجربوا الجلوس إلى أحدهم سيشبعكم بقصص وروايات بطولية تمتدّ إلى سنوات طوال، يفخرون بذلك المزيج الثقافي القديم والجميل من الرومانية والبلغارية والعثمانية.
تنوع حضاري
تضم بلوفديف العديد من المعالم الأثرية الإغريقية والرومانية، تعاقبت عليها عصور ذهبية بداية من عصر «طراودة» مروراً بالعصر البرونزي والذهبي في أوروبا. ولعل الحضارة الرومانية كانت الأكثر تأثيراً في المدينة القديمة، حيث شهدت فيها تطوراً ملحوظاً في ما يتعلق بمرحلة الإعمار والتشييد والبناء، بعضها اليوم يعتبر من أبرز المعالم استقطاباً للسياح، وفي مقدمتها مدرج المسرح الروماني القديم في ساحة «دجومايا»، المتربع عند ضفة نهر «ماريستا»، والذي يتسع لـ30 ألف شخص، مازال يحتفظ حتى يومنا هذا باسمه القديم «فيليبوبوليس»، فضلاً عن مجموعة من الأبنية السكنية المنتشرة في منطقة «إيرينيه»، المرصوصة بالحصى تحدها أعمدة رومانية وشوارع ضيقة، تحيط بها أسوار حجرية متسلسلة ذات بصمة واضحة لوجود الرومان في ذلك الزمن البعيد، وخاصة تلك الموجودة بالقرب من «نيبتيبي»، «تاكسيمتيبي»، و«جامبازتيبي»، وهي التلال الرئيسية الثلاثة من أصل سبعة محيطة بالمدينة. لا تنسوا زيارة المعابد ذات الطابع الإغريقي الجميل، تحيط بها تماثيل رخامية مطلية بالذهب، وكنيسة القديس «قسطنطين» المبنية على الطراز الباروكي الساحر. يقع غير بعيد عنها متحف «الإثنيات الثقافية» (الإيثنوجرافي) الذي يعرض مجموعة قيمة من القطع الأثرية التي يعود تاريخها إلى القرن السابع ميلادي، ومخطوطات مكتوبة بالإغريقية، وبعض من التماثيل واللوحات الفنية تحمل رموز لأعظم الشخصيات خلال الإمبراطورية الرومانية.
قرى مشبعة بالحضارة
لا تترددوا في زيارة قرى بلوفديف الجميلة، ستجدونها غنية ومشبعة بالثقافة والحضارة، بيوتها القديمة، المبنية على الطريقة الرومانية، ما زالت تحافظ على هيئتها القديمة، من دون الحاجة إلى أي ترميم وهو ما جعلها تدرج في عام 1956 في قائمة اليونسكو ضمن المدن الأكثر محافظة على إرثها العمراني، وقد فازت بلوفديف عام 1979 بالوسام الذهبي في أوروبا، وحازت لقب أقدم مدينة أوروبية تحافظ على موروثها الثقافي الذي لم يغب يوماً عنها، حتى أن الكثير من المصطلحات الإغريقية لا تزال تزين بعض الصرح والأبنية والمعالم السياحية، مما جعل العديد من السياح يطلقون عليها «المدينة الخالدة».
يمكنكم الاستفادة من زيارة مدينة جميلة جداً، وقديمة قدم التاريخ، تستقبلكم ببوابة حجرية يمتدّ تاريخ وجودها إلى القرن الخامس قبل الميلاد، اسمها «هيساريا» حكمها الإمبراطور الروماني «ديجليانوس» في القرن الثالث ميلادي، تقع على بعد 40 كيلومتراً شمال بلوفديف، وهي معروفة بحماماتها المعدنية الحرارية التي يصل عددها إلى 16 من الينابيع المعدنية الطبيعية الساخنة، وتعرف بضمها لأحد أكبر مراكز السبا في بلغاريا، ما جعلها أكثر قبلة للسياحة العلاجية.
احتفاليات
احتفلت مدينة بلوفديف مؤخراً، باختيارها عاصمة للثقافة الأوروبية لعام 2019، لقب استحقته بجدارة، مزيج مشبع بتزاوج الثقافات حتى في العادات والتقاليد، التي ظهرت بشكل جلي في الاحتفالية الأخيرة باللقب، والتي صاحبتها فعاليات تكشف عن التأثير الكبير للحضارة الرومانية، فشهد الحاضرون أنشطة ترفيهية متعددة مثل الرمي بالرماح، وفنون المبارزة، فضلاً عن الفعاليات الثقافية الرائعة شاركت فيها قامات أدبية كبيرة في بلغاريا وخارجها، من المسرحيات والغناء الأوبرالي.
هذا ويغلب على المدينة الجميلة، في أواخر موسم الصيف، وتحديداً في شهر سبتمبر طابع الفرح المرتبط بسلسلة الفعاليات الاحتفالية التي تقام فيها، وتتنوع بين مهرجانات ثقافية وأخرى شعبية ترتبط بالطابع التراثي والتقليدي لبلغاريا، أبرزها «مهرجان الموسيقى الكلاسيكية» الذي يقام على المسرح الروماني، والذي يفده أعداد كبيرة من السياح من كل فج في العالم، يرافقه «مهرجان فيليكو تارنوفو الدولي للفنون الشعبية الفلكلورية» الذي يجتمع فيه الآلاف من المتفرجين للاستمتاع بالعروض الفلكلورية الشعبية الحية يقدمها مسرح تابع لأكاديمية الفنون والمسرح الشعبي في بلوفديف، تتخلل المهرجان رقصات تقليدية مذهلة تشارك فيها «دار الأوبرا» بسلسلة من العروض الفنية الساحرة. هذا وتستضيف المدينة سنوياً «مهرجان موسيقى الجاز الدولي»، في منطقة تدعى بانسكو، يشارك فيه ألمع نجوم عزف الجاز البلغاريين، وسط حشد كبير من عشاق هذا النوع من الموسيقى.