سعود السنعوسي 7 مارس 2019
عابَ البعضُ على «كفر ناحوم»، فيلم نادين لبكي الأخير، لغته القاسية بل ورُبَّما الفجَّة في بعض الحوارات، واتَّهمَ بعضٌ آخر أصحاب الفيلم بتحقيق أمجاد خارجية مُغازلةً للغرب على حساب تشويه الدَّاخل بنشر أوساخ غسيله. ولا أنكر أني أقبلتُ على مشاهدة الفيلم متوجِّساً تلك الآراء، وأنا لا أحمل لِلبكي، في ذاكرتي، غير تجربة واحدة قبل سنوات مع فيلمها البديع «هلأ لوين». شاهدتُ الفيلم الجديد، وساءني فيه واقع أشد بذاءةً من بضع شتائم تليقُ به.
أنا لا أفهم بأي منطق يُفكر البعضُ إزاء عملٍ فنِّي مجتزأ من سيرة الواقع، ويُحاكي تجربة إنسانية مريرة ليست بعيدة عنَّا. كيف ينبغي للمرء أن يُعبر عن واقعٍ مُرٍّ بلسانٍ حُلو! وكيف يصوِّر عالماً أسود بكاميرا وردية! كان الفيلم قاسياً، نعم. وأعتقد أنه دور الفنِّ الذي يتبنى موضوعاً بهذه الأهمية ألا يتوسَّل فيك ابتسامةً إزاء متعةٍ خالصة. دور الفنِّ هنا أن يشاكسك حد الإزعاج، يُشير إلى ما تتعامى عنه وهو إلى جوارك. دوره ألا يُغازل ذائقتك، وأن يُدين الإنسان في داخلك، وأن يدفعك إلى لعن الفيلم وطاقمه بدءاً مِن مخرجته مروراً بكاتبي السيناريو وصولاً إلى صاحب أصغر دورٍ فيه والعالم، العالم الذي أنتج فيلماً بهذه القسوة لا المخرجة ولا كاتبي النَّص ولا بقية الطاقم، العالم الذي يُدين فيه الناسُ «لفظة» الشّتيمة ويغضُّ الطرفَ عن «فِعل» الجريمة، العالم الذي يسيئه نشر الغسيل ولا تُسيئه أوساخٌ علقت به.
الفيلم يقول الكثير لمن أراد أن يُنصت إلى غيرِ بذيء الكلمات التي تُشبه بيئتها في واقعها المريض، لا شتيمة مجانية، ولا بذاءة في غير موقعها، ولا قسوة مُفتعلة في عالمٍ قاسٍ بذيء مبتذل. وأن تتطارش عن تلك البذاءة فأنت كمن يُؤمن بزوال المُشكلة بإغماض عينيه.
سوف أوافقك الرأي وأدينُ فيلمَ لبكي شرطَ أن تجيء لي بعالمٍ يخلو من «زين» وأمثاله من المشرَّدين الذين يطوفون الشَّوارع ويتسوَّلون عند إشارات المرور، و«راحيل» التي دفعها جحيمُ وطنها لمغادرته إلى جحيم أوطاننا، و«يوناس» الذي وُلِد، لسوء حظه، في هذه البقعة الموبوءة من العالم. هات لي عالماً لا تُباع فيه «سَحَر» للزواج فورَ حيضتها الأولى، ولا يتكدَّس فيه البشرُ في مساحةِ بضعة أمتارٍ يُسمونَها، مجازاً، بيتاً. هات لي عالماً لا يُنجب فيه الفقيرُ دزينةً من الأبناء يتكفَّل بتربيتها شارع لا يمنحها صكَّ اعتراف بوجودها.
وإلى مُناهضي فكرة نشر غسيلنا بحجَّة مغازلة الغرب، اغسل ثيابك، يا أخي، مما علق بها من أوساخك، وعِش نظيفاً ولا تخشَ الآخرين وأحكامهم على ثيابك المنشورة ما لم تكن بتلك القذارة.
لعلنا نلتقي في أمرٍ واحد ليس إلا، كلٌّ منا ليس سعيداً بالفيلم، لك أسبابك التي لا أفهمها ولا أتفهمها، ولي أسبابي التي لا علاقة لها بصناعة الفيلم. فأنا لستُ سعيداً بالعمل لأنه يُدينني ويُشير إليَّ بسبَّابته بصفتي إنساناً يحيا كما يحلو له، إلى حدٍّ ما، في حين يعيش الآخر حياةً أرحمُ منها الموت.
ولي سببٌ آخر لا يقلُّ أهمية، وهو أني تمنيتُ لو أني من كتبَ سيناريو «كفر ناحوم».