#سياحة وسفر
كارمن العسيلي 29 أكتوبر 2023
هل سبق أن حلمتم بالتجول في مدينة حيث يبدو أن الزمن توقف فيها، وحيث كل حجر يحكي قصة ما، وكل شارع ينبض على إيقاع نغمات ضاربة في القِدَم؟.. هذا الحلم يتجلى حقيقة في مدينة ميريدا، عاصمة ولاية يوكاتان المكسيكية، وروحها المتشبعة بحضارة «المايا» القديمة. هنا، نستكشف، معاً، جمال هذه المدينة، التي تشتهر بأنها أكثر مدن المكسيك أماناً ونظافة، ونطلع على معالمها الأثرية، وأسواقها، ومأكولاتها، وعادات أهلها.
لدى وصولكم إلى «ميريدا»، ستدركون، فوراً، أنها أكثر من مجرد وجهة سياحية، إذ ستكتشفون أنها عبارة عن تجربة ستأخذكم في رحلة عبر الزمن، حيث يتقاطع التاريخ القديم مع الحياة الحضرية الحديثة بشكل ساحر. ونظراً لوقوعها في قلب شبه جزيرة يوكاتان، وبالقرب من خليج المكسيك، فإنها تشكل منصة مناسبة للانطلاق في رحلات نهارية؛ لزيارة أهم المعالم الأثرية المحيطة بها، التي تشملها قائمة «اليونيسكو» لمواقع التراث العالمية، والمحميات الطبيعية بكائناتها البرية المتنوعة، والبلدات الساحرة، مثل بلدتَيْ: فالادوليد، وإيزامال، والاطلاع على مزاياها الكثيرة، من تراثها الفريد، إلى عمارتها ومزارعها ومطبخها وينابيعها ومتاحفها.
تراث فريد
محبو التراث والتقاليد سيستمتعون، حتماً، بالسير في أرجاء المدينة، ومشاهدة معالمها، وسماع قصصها المتناثرة في كل زاوية وعمارة ومبنى، فمدينة ميريدا مزيج متميز من التقاليد الموروثة من حضارة المايا القديمة، التي يعود تاريخها إلى 2600 قبل الميلاد، والعادات التي جلبها الإسبان، الذين استعمروا أراضي المكسيك في القرن الـ16. فالمدينة نفسها أسسها فرانسيسكو دي مونتيغو، عام 1542 ميلادية، على قمة مدينة مايا قديمة تسمى «تيهو»، والتي أعاد الإسبان استخدام أحجارها كأسس لبناء الكنائس الكاثوليكية، والقصور الاستعمارية، فحولت شوارع «ميريدا»، اليوم، إلى متحف حي، يذكر بحقبة مضت تميزت بعظمة لا حدود لها.
مواقع أثرية
الشوارع المرصوفة بالحصى في «ميريدا» تدعوكم إلى استكشاف جوهر روح المكسيك، في المواقع الأثرية المنتشرة في أرجائها ومحيطها. ومن أكثر الأماكن التي ننصحكم بزيارتها مدينة «تشيشن إيتزا» الأثرية، التي بناها شعب المايا في القرن الخامس الميلادي. تقع هذه المدينة المحفوظة جيداً على بعد 75 ميلاً شرق «ميريدا»، وهي أحد أكثر المواقع الأثرية المكسيكية إثارة للإعجاب، نظراً لتصنيفها واحدة من عجائب العالم الجديدة، وأكثر ما تشتهر به هو هرم معبد كاستيلو، الذي يزوره السياح خلال الأوقات التي يتساوى فيها الليل مع النهار في فصلَي الربيع والخريف، لمشاهدة ظاهرة مميزة تعرف باسم «ثعبان كانوكلو»، التي تدل على مهارة شعب المايا في دمج الهندسة المعمارية وعلم الفلك. ففي هذه الفترة تكون الشمس مقابلة للناحية الشمالية الغربية للمعبد، فتنعكس الظلال على المدرج، ليظهر كأنَّ هناك ثعباناً ضخماً ينزلق إلى أسفل الهرم.
وبسبب ازدحام السياح في مدينة «تشيشن إيتزا»، يمكنكم التوجه إلى موقع «أوكسمال»، الأكثر هدوءاً، وهو موقع أثري آخر لحضارة المايا، ومصنف على قائمة المواقع التراثية لـ«اليونيسكو»، ويقع على بعد ساعة و15 دقيقة جنوب «ميريدا»، ويتميز ببنائه الدقيق والمتقن، والمنحوتات والزخارف الحجرية التي تزينه.
ساحات.. وقصور
مثل معظم المدن المستعمرة، تتميز «ميريدا» بساحات واسعة، وكاتدرائيات جميلة، وشوارعها الضيقة، الآمنة والنظيفة، وواجهاتها التي تنبض بألوان الحياة، مثل: الأخضر الفاتح، والنعناعي، والوردي، والمشمشي، ما يجعل السير فيها متعة لا مثيل لها. وبمجرد نزولكم إلى الشارع، لا بد من التوجه إلى ساحة «زوكالو» الرئيسية، وهي ساحة واسعة، تحدها قصور تعود إلى القرن الـ16، ولاتزال محفوظة بشكل جيد جيداً، وقد بنيت لإسكان عائلة مؤسس المدينة فرانسيسكو دي مونتيغو. وإذا أردتم التعرف أكثر إلى السكان المحليين والاحتكاك بهم، فعليكم بالتوجه شمالاً، حيث تقع ساحة «سانتا لوسيا» المورقة، وهي مكان يلتقي فيه السكان المحليون للتواصل الاجتماعي والرقص، وفيها شارع «باسيو مونتيغو»، وهو شارع واسع تصطف على جانبيه الأشجار، وتنتشر فيه منازل الفنون الجميلة الفخمة.
متاحف.. وفنون
عند وجودكم بالمدينة، احرصوا على وضع جدول لزيارة متاحفها الجميلة.. فإلى جانب روعة المعالم الأثرية لحضارة المايا، تتوفر هنا مجموعة كبيرة من المتاحف، التي تعد نافذة على هذا الماضي العريق لمدينة ميريدا، وتكشف عن روعة الفنون التي تحتويها منذ القدم، وتبين بعض الحقائق، ما يساعدكم على فهم أكثر أسرار المعالم التي تزورونها وتشاهدونها. من هنا، تجب عليكم زيارة «غران ديل موندو مايا دي ميريدا»، وهو متحف يحتفي بشعب المايا، ويضم مجموعة من التحف والمعلومات المثيرة للاهتمام عن هذه الحضارة المغلفة بغموض مثير. كما لا يمكنكم تجاهل زيارة متحف الأنثروبولوجيا والتاريخ، الذي يقع في قصر «بالاسيو كانتون» المذهل، في شارع «باسيو مونتيغو»، والذي يحتضن نسخاً وصوراً ورسومات عن مواقع المايا، ومجموعة من هدايا القرابين، التي أخذت من اللوحات الصخرية في «تشيشن إيتزا»، وغيرها من المواقع. وللاطلاع على نضال شعب المايا، في ظل الاستعمار الإسباني، يمكنكم زيارة متحف قصر الحاكم في «بلازا غراندي»، والذي يعرض جداريات للفنان فرناندو كاسترو باتشيكو، تصور هذا النضال بتفاصيل مروعة.
وليست كل المتاحف الموجودة في «ميريدا» تضم آثاراً عن المايا، فهناك متحف الفن الشعبي، الذي يقدم إلى زواره أعمالاً فنية من جميع أنحاء المكسيك، ويستعرض تاريخ اللباس التقليدي النموذجي لأهل المكسيك، وفنون السيراميك، ما يمنحكم فكرة عن الهدايا التذكارية، التي قد ترغبون في شرائها عند مغادرتكم المنطقة.
مزارع تاريخية
من التجارب، التي يجب ألا تفوت الزائر في «ميريدا»، زيارة المزارع التاريخية (هاسينداس)، التي تعكس الطابع الزراعي والاقتصادي للمنطقة في فترة الاستعمار، وما بعدها. فكمكافأة على خدماتهم أثناء الفتح، تم منح الإسبان المنتصرين أراضي لتربية الماشية، وزراعة المحاصيل المطلوبة، مثل: التبغ والسكر والقطن، والقمح، ولاقت هذه المزارع نجاحاً كبيراً أواخر 1800 إلى 1920، وشهدت طفرة من الازدهار، ما حولها من مزارع متواضعة إلى مزارع مجهزة بالآلات الحديثة. لكن الطابع التقليدي لايزال موجوداً؛ ليقدم للزوار تجربة استثنائية، إذ تمثل هذه المزارع نوعاً من المتاحف الحية، التي تجعلكم تختبرون الحياة الزراعية التقليدية. وبالإضافة إلى الجوانب التاريخية، تتيح زيارتكم إلى مزارع «هاسينداس» فرصة اكتشاف جمال الطبيعة والمناظر الخلابة في منطقة «ميريدا»، والاستمتاع بالمشي في أراضي المزارع وحدائقها. كما يمكنكم، هناك، ركوب عربة تجرها الحمير، وهي وسيلة التنقل في ذلك الزمان؛ لزيارة الحفر المائية المنتشرة في المنطقة، التي يطلق عليها اسم «حفر سينوت».
السباحة في الحفر
عندما اصطدم كويكب قاتل بقاع البحر، قبالة سواحل شبه جزيرة يوكاتان، قبل 66 مليون سنة، أدى ذلك إلى القضاء على الديناصورات، وتسبب أيضاً في إنشاء أكثر من 6000 حفرة مياه عذبة، وكهوف تسمى «سينوت». لقرون عدة، استخدمت برك المياه الجوفية الصافية هذه كآبار مقدسة من قبل شعب المايا، حيث قدموا القرابين، وأقاموا الطقوس الروحية من حولها. ولايزال بعض المشعوذين المحليين يؤدون هذه الطقوس حتى يومنا هذا، وهو ما يمكنكم اختباره عن كثب في «سينوت ساكاموكوي». وهناك ستشاهدون موكب نقل مجموعة جميلة من الزهور الملونة، والنباتات الطبية، وحبوب الكاكاو، والشموع، إلى الآلهة مع البخور المعطر (راتنج الشجرة)، بينما يقوم المشعوذون بطقوسهم الشفائية؛ لمد الأفراد بطاقة إيجابية قوية.
مأكولات شهية
لا يمكن مغادرة «ميريدا» من دون تجربة تناول مأكولاتها التقليدية وطعامها الشهي، إذ يعد فن الطهي إحدى أكبر ميزات المدينة، كما أن أسواقها المحلية، مثل: «ميركادو لوكاس دي غالفيز»، و«ميركادو سانتياغو»، تمتلئ بالفواكه والخضروات الاستوائية. تجولوا في هذه الأسواق، وتذوقوا المنتجات المحلية، مثل: فلفل «هابانير» الحار، و«التشايا»، وهو نبات أخضر محلي يشبه السبانخ؛ وبرتقال إشبيلية الذي يعتبر مكوناً أساسياً في الطهي هناك لحموضته؛ وأيضاً «الهوايا»، وهو عبارة عن ليمون حصري لمنطقة يوكاتان، يؤكل عادة مع رش مسحوق الفلفل الحار عليه. ومن الأطباق التقليدية المبتكرة من حضارة المايا، لا بد من تذوق أطباق ما قبل كولومبوس، مثل: «سلبوت الديك الرومي»، و«البابادزولز» المكون من خبز التورتيلا، المملوء بالبيض المنقوع في صلصة مصنوعة من بذور اليقطين و«الإبازوت»، وطبق «سيبولاس إنكورتيدوس يوكاتيكاس»، المعد من مزيج من البصل الأرجواني المقطع إلى شرائح رفيعة، والبهارات، والفلفل، والأوريجانو، وشرائح الثوم، والخل المعتدل، والملح، ولا تنسوا طبق «سوبا دي ليما» التقليدي، وهو حساء دجاج وطماطم، حار ولذيذ.