#ثقافة وفنون
ريما كيروز 2 يناير 2020
من أسباب شعر رثاء النفس، التأسف على الشباب، التبرم من الدنيا، الغربة المكانية والزمانية والشعور بدنو الأجل. وقد كشف هذا النوع من الشعر عن عقيدة الشعراء في مسألة الحياة والموت، ووثق بعض جوانب حياتهم من أيام الجاهلية إلى عصرنا الحالي.
أنشد الشعراء قصائد الرثاء، فنالوا الإعجاب على اعتبار أنها من أصدق الفنون الشعرية، وتصدر من عاطفة صقلها الحزن الذي يعتري المرء حين يشعر بأنه سيفارق الدنيا، من دون أن يدرك أحلامه في الحياة، وقد اشتهر العديد منهم وتمتعوا بالمنزلة الرفيعة والسمعة الحسنة في مجتمعاتهم، وأهمهم:
امرؤ القيس:
رثى نفسه في قصائد جميلة حين علم أن الموت مدركه، فقد ألبسه ملك الروم حلة مسمومة، حين ذهب مستنجداً به، لأخذ الثأر من قاتل أبيه. وصل امرؤ القيس إلى أنقرة وأحس بدنو الأجل وأنه ميت ومقضي عليه من دون ذنب، وكان حينذاك قرب جبل عسيب، ورأى امرأة تدفن فأنشد قصيدته:
أجارتنا إنا غريبان ههنا
وكل غريب للغريب نسيب
أجارتنا ما فات ليس يؤوب
وما هو آتٍ في الزمان قريب
وليس غريباً من تناءت دياره
ولكن من وارى الترابُ غريب
طرفة بن العبد:
قضى هذا الشاعر الذي عشق الحرية وتغنى بها، حياته في اللهو، وكتب أجمل الأبيات في رثاء نفسه. وعقب هجائه ملك الحيرة بما أثار غضبه ودفعه إلى إعطاء الأمر بقتله في رسالة حملها طرفة بيده إلى والي البحرين الذي سجنه، فأدرك أن الموت قريب منه وكانت قصيدته هذه:
ألا اعتزليني اليوم خولة أو غضي.. فقد نزلت حدباء محكمة القبض
أزالت فؤادي عن مقر مكانه.. وأضحى جناحي اليوم ليس بذي نهض
فقد كنتُ جلداً في الحياة مدرناً.. وقد كنت لباس الرجال على البغض
وإني لحلو للخليل وأنني .. لمرٌّ لذي الأضغان أبدي له بغضي
مالك بن الريب:
عرف هذا الشاعر بالوسامة والأناقة، وعاش حياة العبث واللهو، إلى أن حثه أمير المدينة سعيد بن عثمان بن عفان على تغيير حياته والذهاب إلى الجهاد، فقبل الدعوة وفي طريق عودته إلى وادي الغضا في نجد، لسعته أفعى وقضت على أحلامه وآماله وأحس بالموت، فأنشد قصيدته الشهيرة..
وَلَيتَ الغَضا يَومَ اِرتَحلنا تَقاصَرَت
بِطولِ الغَضا حَتّى أَرى مَن وَرائِيا
لَقَد كانَ في أَهلِ الغَضا لَو دَنا الغَضا
مَزارٌ وَلَكِنَّ الغَضا لَيسَ دانِيا
أَلَم تَرَني بِعتُ الضَلالَةَ بِالهُدى
وَأَصبَحتُ في جَيشِ اِبنِ عَفّانَ غازِيا
وَأَصبَحتُ في أَرضِ الأَعاديِّ بَعدَما
أرانِيَ عَن أَرضِ الأَعادِيِّ نائِيا
أبو فراس الحمداني:
كان يعرف بشجاعته، وكانت حياته زاخرة بالمتاعب، وتميز شعره بالحزن الذي يسيطر على ذوي النفوس الأبية. رثى نفسه في أكثر من قصيدة، وفي إحدى قصائده طلب من ابنته ألا يدركها الخوف إذا نادته ولم يلبِّ نداءها ..
أبنيتي لا تجزعي
كل الأنام إلى ذهاب
نوحي عليّ بحسرة
من خلف سترك والحجاب
قولي إذا ناديتني
وعييت عن رد الجواب
زين الشباب أبو فرا
سٍ لم يمتَّع بالشباب
أبو الطيب المتنبي:
هو الشاعر المكسور الذي لم يحقق الزمن طموحاته الكبيرة، ومات مقتولاً على يد من هجاه. كان المتنبي وحيداً بلا أصدقاء، ووجد في الموت دواء وتمناه في قصيدة أنشدها، حين تطلع إلى وجود صديق وفيّ بجانبه وخاب مطلبه:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا .. وحسب المنايا أن يكن أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى صديقاً .. فأعيا أو عدواً مداجيا
حَبَبْتُكَ قَلْبي قَبلَ حُبّكَ من نأى .. وَقد كانَ غَدّاراً فكُنْ أنتَ وَافِيَا
أعْلَمُ أنّ البَينَ يُشكيكَ بَعْدَهُ .. فَلَسْتَ فُؤادي إنْ رَأيْتُكَ شَاكِيَا
بدر شاكر السياب:
هو رائد التجديد في حركة الشعر العربي. عاش يتيماً وفقيراً ومريضاً. له قصائد رثاء كثيرة، وأشهرها تلك التي كتبها حين أخبره الأطباء أن مرضه لا شفاء منه وأن منيته اقتربت، فنادى فيها أمه المتوفاة لتكون بجانبه في مصابه ورثى نفسه قائلاً:
نسيم الليل كالآهات من جيكورَ يأتيني
فيبكيني
بما نفثَتْهُ أمي فيه من وجدٍ وأشواقِ
تنفس قبرُها المهجور عنها، قبرُها الباقي..
فما أمشي، ولم أهجرك إني أعشق الموتا
لأنك منه بعض، أنت ماضيَّ الذي يمِضُ
إذا ما اربدَّتِ الآفاق في يومي فيهديني!..»
الدكتور غازي القصيبي:
شاعر سعودي، كان لديه إحساس مفرط بسطوة الزمن كما كان للحزن والموت وقعهما في حياته، رثى نفسه في قصائد عدة ومنها قصيدة ناجى فيها ربه وخاطب ابنته هديل وهو يشعر بموعد اقتراب الأجل..
يا رب أنت المرتجى سيدي
أنر لخطواتي سواء السبيل
هديل بنتي مثل نور الضحى
أسمع فيها هدهدات العويل
تقول يا بابا تريث فلا
أقول إلا سامحيني.. هديل.
محمود درويش:
اعتبر الوريث الشرعي للقصيدة العربية وما راكمته من تراث فني وجمالي عبر العصور. له قصائد رثاء عدة وأشهرها قصيدة «جدارية» التي رثى فيها نفسه وهو على فراش المرض:
أَيُّها الموتُ انتظرني خارج الأرض،
انتظرني في بلادِكَ،
ريثما أُنهي حديثاً عابراً مَعَ ما تبقَّى من حياتي .. قرب خيمتكَ..