إبراهيم علي 19 أغسطس 2018
كنسيم يمر على ينبوع ماء ويهفهف على «خد» وردة، هو صوتها.
ابنة «كفر شيما» في لبنان ولدت في 1957 في قلب الموسيقى والطرب. والدها الموسيقي حليم الرومي لقّنها فنون الطرب وألوان الموسيقى، فراحت، مثل فراشة تطوف على حقل أزهار تعبئ روحها من صنوف وأسرار الموسيقى. ولم يكن مستغرباً أن تلفت الأنظار وهي بعد طفلة، خاصة وأنها تملك طبقة صوتية غاية في الجمال، طوعتها أكثر فأكثر بالمران والتدريب.
شاركت ماجدة الرومي في «ستديو الفن» في 1974، لتعرف بعد ذلك درب الشهرة والنجاح بعد أن حققت حضوراً باهراً في برنامج الهواة الشهير ذاك.
في 1975 غنت ماجدة أولى أغنياتها «عم بحلمك»، كما أدت دوراً في فيلم «عودة الابن الضال». وفي 1977 أصدرت أول ألبوم لها وهو «وداع». ولعلها كانت، إلى جانب رفيقاتها ورفقائها من مبدعات ومبدعي بلاد الأرز، الاستثناء في زمن الجنون الذي ضرب لبنان، وأحال شوارع مدنها و«ضيعاتها» إلى حواجز للميليشيات المتقاتلة ونوافير الدم والقتل على الهوية. في خضم كوابيس لبنان هذه، كانت ماجدة الرومي ومثيلاتها هن الصوت الحاني الذي يخفف قليلاً على الناس آلام وعذابات الحرب الأهلية. كن هن رمز لبنان، لبنان فحسب، دون طوائف، دون تقسيم، دون كراهية. كن هن صوت الحب والمستقبل.
في 1979 اقترنت بأنطوان دفوني، ثم فرضت عليها الحرب الأهلية وقف نشاطها الفني إلى 1980. كيف يتسرب ذلك الصوت الندي الداعي للحب والجمال وسط دوي المدافع والرصاص. كيف ينتصر الحب على جنون الكره؟
في 1982 رزقت بابن، كما أصدرت ألبوم «من زمان»، وهو العام ذاته الذي حبس فيه اللبنانيون أنفاسهم خلاله وهم يرقبون الدبابات وحاملات الجند الإسرائيلية وهي تجتاح بلادهم وتزمجر ماكيناتها في وجوههم. وما أصعب الغناء في زمن كهذا. كيف يدوزن الموسيقيون آلاتهم، ولا آلة إلا آلة القتل؟ كيف يتدرب العازفون مع ماجدة على أغنية جديدة، ولا تدريب إلا على الرماية؟ كيف يضع ملحن لحناً عبقرياً واللحن السائد هو القصف؟ ما عادت بيروت هي بيروت، ولا جبل لبنان هو جبل لبنان. الكل يقتل الكل. وماجدة الرومي هناك، تقاتل على جبهة وحيدة، هي استمرارها في زرع الجمال ونبذ الكراهية والدعوة للحب. من قال إن الفنان لا ينتصر بالحب والجمال على كل أشكال القبح في الحياة؟ يفعل ذلك وروحه تتمزق، وقلبه يحترق، وهو المخلوق من طين اللين والرفق وماء الجمال والسماحة.. والحب!
في 1985 قاومت ماجدة الرومي كل آلامها «الوطنية» واعتلت المسرح في القاهرة في مهرجان الإذاعة والتلفزيون، وتغلبت مرة أخرى على المحنة لتصدر ألبوم «يا ساكن أفكاري» في 1988، وكأنما كانت تؤكد مرة بعد أخرى أن الفن وحده قادر على إنزال الهزيمة بالظلام، فهو «التشبث» بالحياة في مواجهة الموت، وهو رصف طرقات لبنان بالعطر والورد عوض الدم.
في 1991 أطلقت ماجدة الرومي ألبومها «كلمات» الذي طبقت شهرته الآفاق، وأبرزها كفنانة حساسة للغاية في انتقاء «كلمات» أغنياتها، وإلباسها ثوباً قشيباً من ألحان جميلة، ثم رفع الستار عن كل ذلك بصوت مذهل.
بعد «كلمات» أضحى ذواقة الفن الرصين يترقبون ماجدة الرومي بفارغ الصبر. إنها سيدة الفخامة التي تمنحهم فناً استثنائياً في زمن تغلب عليه الكآبة والنكسات والانكسارات. في 1992 رزقت ماجدة بابنتها نور لتتضاعف مسؤولياتها الأسرية، وكانت الحرب الأهلية في بلادها وضعت أوزارها، وبدأت بنفض الغبار عن سوحها، وإزالة التغضنات عن وجهها لتعانق الحياة مرة أخرى. «ابحث عني» و«رسائل» ألبومان طرحتهما ماجدة في 1994 و1996، ومن أغنية لأخرى، كانت تبرهن في كل مرة على قدراتها وتطريبها وفنها الجميل. ماجدة الرومي مثلت حضوراً ثابتاً في غالب المهرجانات العربية الفنية الكبيرة غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً. في 2003 أعلنت خبر انفصالها لتسدل الستار على حب دام نحو عقدين، وليتراجع إنتاجها قليلاً عن السابق، وكأن روحها لم تحتمل ذلك. لكنها عادت بعد ثلاثة أعوام لتصدر ألبوم «اعتزلت الغرام»، ثم «غزل» في 2012. واللافت في مسيرة هذه الفنانة الاستثنائية، تعاونها الفريد مع الشاعر السوري الكبير، نزار قباني، حيث استحالت أشعاره في حنجرتها إلى أغنيات يرددها الجميع.
ماجدة الرومي هي ابنة عذابات الحرب الأهلية بامتياز، هي الوردة التي نمت وسط الخراب والرصاص والدم، لتقول للعالم إن الفن قادر على الحياة في كل الظروف، وأن أغنية - على رقتها - أقوى من فوهة مدفع في تأثيرها على الناس.