لاما عزت 23 يونيو 2018
ماذا لو نسينا قليلاً قصة جميلة والوحش التي نعرفها جميعاً وذهبنا نحو جميلة أخرى، ووحش حقيقي؟ وحش قاتل ولا يمكنه أن يتحول في النهاية إلى كائن خير؟ كلما تحدثنا عن جميلة بيكاسو، الليتوغرافيا العظيمة، يسبقنا الكثيرون إلى القول من باب العارف: فقد رسم بيكاسو وجه جميلة بو حيرد، وتعاطف مع الثورة الجزائرية من خلالها، في بداية الستينات. ويقصدون طبعاً جميلة التي حكم عليها بالإعدام وأنقذها محاميها المعروف جاك فيرجيس، ليتزوجها لاحقاً.
والحقيقة أن هناك ثلاث جميلات ثوريات واجهن الوحش الذي حكم عليهن كلهن بالإعدام بعد أن وضعن قنابل موقوتة في المقاهي والمطاعم والمراقص، والأماكن العامة التي كان يرتادها المستعمرون: جميلة بو حيرد، المعروفة التي تحولت إلى إيقونة عالمية. لا تزال حية إلى اليوم. جميلة بوعزة التي قامت بالعمل نفسه، والتي توفيت بعد الاستقلال، في عزلة تامة. أخيراً جميلة بوباشا واسمها النضالي، خليدة، التي وُجِّهت لها التهمة نفسها، فكان الحكم نفسه، الإعدام بالمقصلة. لكن المحامية الفرنسية، جيزيل حليمي، دافعت عنها بقوة واستماتة على الرغم من تهديدات المؤسسة العسكرية الفرنسية التي اتهمتها بالتواطؤ مع الإرهابيين؟ وأوصلت قضيتها إلى العالم من خلال مرافعتها، وكتابها الذي أنجزته برفقة الكاتبة الفرنسية المعروفة سيمون دو بوفوار التي فضحت الوحش وآلة التعذيب في الجزائر، في البداية في جريدة لوموند في 2 يونيو 1960، ثم في الكتاب المشترك الذي نشر في أكبر دار فرنسية، غاليمار، وتحول إلى وثيقة إدانة كبيرة ضد الاستعمار. لا يزال إلى اليوم شهادة حية ضد كل الممارسات الدموية التي مارسها الوحش الاستعماري في الجزائر ومختلف بلدان العالم. ولدت جميلة بو باشا في الجزائر، في بلوغين في 9 فبراير 1938. ناضلت في الحركة الوطنية. عذبت كثيراً، واعترفت تحت التعذيب العنيف بقيامها بوضع القنبلة الموقوتة في لا براس الجامعة. وحكم عليها بالإعدام في 28 يونيو 1961. هذه الجميلة هي التي تعاطف معها بيكاسو وليس جميلة بو حيرد، لأنه كان تحت تأثير الحملة العالمية التضامنية معها. تحولت قضيتها إلى محاكمة رمزية لجرائم الاحتلال والتعذيب الوحشي، والنفسي، والاغتصاب الذي عانته جميلة بو باشا، ولا تزال، وترفض الحديث عنه. نُقلت بعدها من الجزائر إلى فرنسا بعد أن أصبحت قضيتها إنسانية. لكن هذا لم يمنع من الحكم عليها بالإعدام على الرغم من أن القنبلة التي وضعتها في لا براس الجامعة في 27 سبتمبر 1959، لم تنفجر. عذبت في البداية سرياً بالكهرباء واغتصبت العديد من المرات. عوقبت بالضرب وحرق أعقاب السجائر على جسدها العاري، والغطس حد الاختناق. وبفضل جيزيل حليمي وسيمون دو بوفوار وتعاطف المثقفين الفرنسيين، مثل: سارتر وآراغون، إلزا تريولي، إيمي سيزير وغيرهم. لم يتم تنفيذ حكم الإعدام، قبل أن يطلق سراحها بعد اتفاقيات إيفيان التي أدت إلى استقلال الجزائر. في لحظة الحملة التضامنية، قرر بيكاسو، وهو الفنان المشهور المضاد للفاشيات، وفي عز صعود نجمه، أن يفعل شيئاً من أجل جميلة. جعل منها أيقونة نضالية حية، فأسهم في إنقاذها من المقصلة. نشر بيكاسو أول مرة الليتوغرافيا التي اختار لها وجه جميلة، على الصفحة الأولى في مجلة الآداب الفرنسية في 8 فبراير 1962، فكانت حدثاً ثقافياً مهماً. ثم على غلاف كتاب جيزيل حليمي وسيمون دو بوفوار. لوحة يقدر ثمنها اليوم بحسب الأخصائيين الفنيين، بـ400 مليون دولار. ثقل بيكاسو العالمي أثر كثيراً في جعل الوحش يتريث في الانقضاض على جميلة. طبعاً تعاطفه مع جميلة سحب وراءه الكثير من الفنانين الذين رأوا فيها رمزاً لتحرر المرأة. الفنان المعروف والعالمي روبيرتو ماطا أنجز عنها لوحة سماها تعذيب جميلة، أثرت كثيراً في الوجدان العالمي والإنساني. والموسيقي ليجي نونو خصص لها مساحة مهمة تحمل عنوان جميلة بو باشا، في نشيد الحياة والحب Canti di Vita et D'amore وغيرهم. ما قام به بيكاسو من تأثير عالمي، حول مناضلة عادية، وإنسانة بسيطة، إلى أيقونة حقيقية في تاريخ النضال الإنساني من أجل الحق وضد الوحش الذي امتهن الجسد المقدس للحياة.