#تنمية ذاتية
نوال نصر 21 مايو 2024
تُحبّ الناس لكنها لا تُحبّ الاختلاط مع كلّ الناس، وتشعر بأن العلاقات الاجتماعيّة ترهقها، وإذا خُيّرت بين عشاءٍ واسع وجلسة ضيّقة تختار حتماً الثانية، وفي ثالث الاحتمالات، إذا وجد، تختار أن تشاهد فيلماً سينمائياً طويلاً، وإذا اضطرّت أن تتكلم في جمعٍ ما ترتبك، ترتجف، وتتبعثر الحروف بين شفتيها. ودائماً تختار أن تضع بينها وبين الآخرين مسافة.
يقولون عنها انطوائية، أما هي فترى نفسها منفتحة على ناس وليس على كل الناس. وفي أيام «الويك إند» تشعر بفرحٍ كبير إذا جلست مع نفسِها دون ضغوطات اجتماعية وحفلات ومناسبات وعلاقات تعتبرها عابرة. تحبّ القراءة ومفهوم السعادة لديها مختلف عن أقرانها. هي تسمع، بين حين وآخر، من ينصحها - وهي ابنة العشرين - بمزيد من الانفتاح لكنها تردّ بجوابٍ بات بمثابة لازمة على لسانها: الروتين سعادتي. أصدقاؤها - وعددهم لا يتجاوز أصابع اليدّ الواحدة - يقلقون أحياناً من أجلِها محاولين دفعها للخروج من عزلة تختارها سعيدة لنفسِها، ويتساءلون: هل سهام انطوائية؟ هل هي بالفعل سعيدة في أسلوب حياتها، أم أنها خجولة غير قادرة على المواجهة في الأماكن العامة؟.. هي تشعر بحيرتهم، لكنها تأبى التغيير. حاولت لكنها رأت نفسها خارج دائرة الراحة الخاصة بها؛ فانطوت أكثر على نفسها. ماذا يقول علم النفس عن الشخصية الانطوائية؟.. سؤال طرحناه على استشارية الصحة النفسية خبيرة التربية الأسرية في مركز «عونك للتأهيل الاجتماعي»، الدكتورة هالة الأبلم:
مصدر الطاقة
بصوتٍ دافئ، منفتح، تجيب الدكتورة هالة الأبلم على سؤالنا عن حالة سهام ومن هم (وهنّ) مثل سهام، بالقول: «الفارق الأساسي بين الشخصية الانطوائية والشخصية المنفتحة يكمن في المصدر الذي يستمدّ منه كل منهما طاقتها. يحتاج الانطوائي، على سبيل المثال، إلى أن يكون في بيئات هادئة بعيدة عن التجمعات البشرية لكي يستعيد طاقته، بينما يستمدّ الشخص المنفتح طاقته من بيئات أكثر حيوية وصخباً».
فلندخل أكثر في التفاصيل: «من أبرز صفات هذه الشخصية تفضيل الكتابة بدل الكلام المباشر، فيُفضّل الشخص الانطوائي التفكير ملياً ولوقتٍ طويل أولاً ليخرج بعد ذلك بكلمات واضحة، منضبطة ودقيقة، يكون قد استعد لها جيداً وفكّر بها ملياً، وهذا الشخص بالذات يعشق البقاء وحيداً والانعزال. فترة العزلة تكون ضرورية له؛ لاستعادة سعادته وصحته والشعور بالرضا عن نفسه. ويحب الشخص الانطوائي ممارسة الأنشطة الفكرية، مثل: القراءة والكتابة والرسم ومشاهدة الأفلام. تضيف الأبلم: على الرغم من أن بعض الانطوائيين يستمتعون بالفعل بالحفلات أو المناسبات الاجتماعية، إلا أن هذا النوع من الأنشطة يستنزف قواهم وطاقتهم فيحتاجون بعده إلى فترة انعزال أخرى لإعادة شحن طاقتهم. وقد لا يبدو الانطوائي شخصاً سعيداً، كما هي حال الشخص المنفتح الذي يضحك كثيراً، ويبدي مشاعر السعادة بوضوح، وربما يعود ذلك إلى أن مفهوم السعادة لديه مختلف قليلاً، إذا يرى أنها تدفق روتيني من مشاعر الرضا عن علاقاته وإنجازاته الحياتية أي سعادة هادئة روتينية. ومن الصفات أيضاً، عدم ميل الانطوائي إلى المبادرة وتجنبه عادة مواقف المواجهة والخلاف والصراع. واللافت أن الآخرين يميلون عادة لاستشارة الانطوائي وأخذ رأيه في الكثير من القرارات الحياتية الصعبة والدقيقة. ويملك الشخص الانطوائي عادة دائرة ضيقة من الأصدقاء أو الأشخاص المقربين. وهو يشعر بقدرته على التفكير بشكل أفضل عندما يكون وحيداً؛ لذا يميل إلى العمل وحده».
سؤال بديهي، هل الشخصية الانطوائية تأتي عن استعداد جيني أم عن تربية خاطئة؟ تجيب الدكتورة هالة الأبلم: «هناك أسباب وراثية، حيث إن نشأة الطفل في بيت يتّسم أفراده بالانطوائية وحبّ العزلة وعدم الاختلاط بالآخرين تجعله يميل إلى الانطوائية أيضاً. والتربية عامل مهم في تكوين شخصية الفرد، فالأشخاص الذين تتم تربيتهم على عدم التعاون وعدم الاختلاط بالآخرين يكونون أكثر عرضة للانطواء من غيرهم. يضاف إلى ذلك، أن عدم الثقة بالنفس من أكثر الأسباب النفسية التي تجعل الشخص يعاني الانطواء بسبب خوفه من ردة فعل الآخرين تجاهه. كما أن التغيرات الفسيولوجية التي تطرأ على المراهقين، على اختلاف أنواعها، قد تكون سبباً في اختيارهم العزلة وعدم التواصل مع الآخرين».
الانطوائية ليست مرضاً.. ولكن
الانطوائية، بحسب الطبيبة النفسية، ليست مرضاً بل هي طبيعة بشرية وليست بالسلبية التي يعتقدها البعض، لذا لا يحتاج الانطوائي - وبينهم سهام - لأن يقوم أي شخص بعلاجه. وفي أغلب الأحيان لا يدرك الشخص الانطوائي أنه بحاجة إلى تشخيص حالته، وإيجاد علاج محدد لها. مع ذلك، قد يطلب البعض المساعدة بسبب المضاعفات الأخرى الناتجة عن هذه الحالة، وبينها: الاكتئاب والقلق والوسواس القهري. ومن أجل تشخيص اضطراب الشخصية الانطوائية قد يتم الاعتماد على مدى ارتباط الشخص المصاب بالآخرين، ويمكن للعائلة والأصدقاء أن يوفروا معلومات مفيدة أكثر بعد الحصول على إذن المريض.
شخصية تجيد المراقبة وقراءة الآخرين
الشخص الانطوائي ليس معقداً أو غريب الأطوار، تقول الأبلم: «العديد من الانطوائيين يتمتعون بجاذبية وكاريزما كبيرة وقدرة على أن يضيفوا الكثير من المتعة إلى أي حديث أو اجتماع». وتضيف: «من الأشياء التي تميز الشخصية الانطوائية أنها تجيد المراقبة بشكل يجعلها قادرة على إجادة قراءة لغة الجسد والعيون والهندام أيضاً. إنها شخصية تحلل بدقة ملامح الناس. ويعيش أصحابها داخل عوالم خاصة بهم. تجد هذه الشخصية سعادتها بأن تكون بمفردها، وأن تمارس هوايات تجعلها أقرب من عوالمها الداخلية، حيث إنها تشعر بالسعادة في الوقت الذي تقضيه بمفردها وفي معزل عن الناس، إلا أن هذا لا يمنعها من التفاعل بشكل جيد مع أصدقاء مقربين لها، أولئك الذين تختارهم بعناية فائقة حيث إن دائرة معارفها تكون ضيقة لاهتمامها أو لإيمانها بأن الصداقة تقاس بقوتها وليس بعددها، كما أن علاقاتها بالأصدقاء تكون مبنية على أشياء متينة وعميقة، عكس صداقات الشخصية الانبساطية التي تهتم بالمتعة فقط».
هل من الممكن أن يتغيّر الشخص الانطوائي فيصبح منفتحاً أكثر؟ قد يتحقق ذلك بحسب الأبلم عبر «محاولة الاختلاط تدريجياً مع الآخرين وتمرين الذات على الثقة بالنفس والتغلب على المشكلات النفسية وعدم شغل العقل بأمور ليس لها أساس من الصحّة، وأيضاً من خلال التدرب على المهارات الاجتماعية ومحاولة من هم في دائرة الشخص الانطوائي تصدير حبهم له وتشجيعهم له على التحدث مع الإنصات له باهتمام. هو ليس وقحاً بل مهذب جداً بطبيعته لكنه لا يحب التفاعل البشري كثيراً، الأمر الذي قد يجعله يبدو غير مهذب أحياناً نتيجة محاولته الانسحاب من بعض المواقف الاجتماعية».
العلاج إذاً يكون «بإشعار المراهق بالتحديد بالمحبة والرحمة والحنان والقبول والاطمئنان والأمان، وتدريبه على إثبات ذاته والتعبير عن مشاعره وتنمية الثقة في نفسه وروح المغامرة والعمل على تغيير النظرة السلبية عن ذاته، وتدريبه على رفض طلبات الآخرين وقول (لا)، عندما تتعارض مع رغباته وأفكاره، مع تدريبه على المهارات الاجتماعية وتكوين الصداقات وعدم جلد الذات وتجنب استخدام الإهانة والتوبيخ وتوجيه النقد واللوم له».
الانطوائي قد يتحوّل إلى منفتح، لكن هل يمكن أن يتحول المنفتح إلى انطوائي؟ تجيب الدكتورة الأبلم: «الانطواء من أكثر الأمراض النفسية شيوعًا بين الأشخاص، وهو عبارة عن إصابة الشخص بعزلة نفسية تجعله يرغب في الابتعاد عن الاختلاط بالأشخاص الآخرين، وتفضيله العيش في دائرة الوحدة، وإنجاز مهام حياته اليومية بشكل منفرد دون الاستعانة بمن حوله»، وتضيف: قد تكون مرحلة المراهقة من أهم المراحل خلال نمو الشخص، وهناك العديد من المصاعب المرافقة لها ولكن بين التقلبات المزاجية الناتجة عن التغيرات الهرمونية ومحاولة التمرد على السلطة واكتساب المزيد من الاستقلالية سيبقى المراهق راغباً في أن يشعر بالقبول والانتماء، سواء كان ذلك بين أفراد العائلة أو بين أوساط أصدقائه، فالمراهق يرغب بأن يكون موجوداً بين مجموعةٍ تؤمن له الراحة النفسية. إذاً عندما يبدأ المراهق بالجنوح نحو العزلة والابتعاد عن الآخرين، ويفضل قضاء وقته وحده، فهذا قد يكون دليلاً على وجود خطبٍ ما، ومن أجل معرفة المشكلة علينا البحث عن أسباب العزلة الاجتماعية عند المراهق، وعادةً ما تكون أهم هذه الأسباب: التنمر والإقصاء، والاكتئاب والقلق، وإدمان التكنولوجيا، ونقل مكان السكن، ومشاكل مرتبطة بالعلاقات وبالشكل الجسدي، فيمكن أن يُعاني بعض المراهقين العزلة نتيجة معاناة عيوبٍ جسدية معينة، وحتى في حال لم يعانِ المراهق عيوباً جسدية حقيقية فقد يشعر بالقلق بسبب نقد غير عقلاني لشكله أو لكونه يمتلك نظرة مبالغاً فيها لعيوبه، هذا الأمر يجعله يُعاني القلق بشأن مظهره الخارجي ويدفعه للابتعاد عن الآخرين».
هل يؤدي الخجل إلى الانطوائية؟ تجيب الدكتورة الأبلم: «قد يبدو الانطواء والخجل متشابهين ظاهرياً إلا أنهما ليسا متماثلين تماماً. يستمتع الانطوائي بقضاء الوقت بمفرده ويتم استنزافه عاطفياً بعد قضاء الكثير من الوقت مع الآخرين، بينما لا يريد الشخص الخجول بالضرورة أن يكون بمفرده ولكنه يخشى التفاعل مع الآخرين. أهم فرق بين الانطواء والخجل هو أن الخجل سلوك وليس نوعاً من أنواع الشخصية، وهو قابل للعلاج». وتختتم: «إن الشخصية الانطوائية ليست خجولة لكنها شخصية أقل صراحة من الآخرين وأقل تحفظاً منهم».