#مقالات رأي
لولوة المنصوري اليوم
بين ملوحة الخليج العربي، الذي ضمّ رفات «حضارة العبيد»، وخصوبة شَمْل في جبال الحجر، التي خبأت تحت صخورها، وحدائق نخيلها الوارفة، كنوز مقبرة «أم النار».. كانت لعبتنا الطبيعية حجارة وفخّار ذلك القبر الدائري الضخم. وكيف لنا، حينها، أن ندري بأنه من أكبر القبور، التي عُثر عليها في الإمارات!
هل كانت هذه مقبرة جماعية لأسرة واحدة كبيرة من «أم النار»، أم لقبيلة كاملة؟
تعود المقبرة - في حسابات الآثاريين - إلى عام 4500ق.م، واستمر دفن الموتى بها لأكثر من 100 عام، في ثلاثة أقبية أسرية، تم تقسيمها - باستخدام جدران داخلية - إلى حجرات دفن عدة.
قيل: إنه كان عند امتلاء الأماكن المعدة للدفن؛ يُحرق الجثمان خارج القبر، ثم يُعاد دفنه - في وقت لاحق - بالجزء العلوي من القبر، وتعمل البلاطات الحجرية كأرفف لحفظ رفات الجثث المحترقة؛ لترك فراغ لدفن جديد على مستوى سطح الأرض. وبفضل طقوس الدفن المعقدة هذه، أمكن استخدام القبر لأكثر من 100 عام، ما يفسر العدد الكبير من حالات الدفن (430 حالة دفن سنوياً).
وقد دوّن الآثاريون، في تقاريرهم البحثية، الطريقة الأساسية في دفن الموتى بمدفن «أم النار» في منطقة شمل (شمال شرق رأس الخيمة)، متمثلة في وضع الجثمان منثنياً مع أمتعة المتوفى الشخصية، مثل: الفخّار، والمجوهرات، والأسلحة، والآنية الحجرية، ومعظم هذه الأدوات كانت محلية الصنع. وقد أظهرت البضائع، المستوردة من مناطق بعيدة مثل بلاد ما وراء النهرين، وإيران، والبحرين، ووادي السند، الحجم الكبير للتجارة البحرية في الألفية الثالثة قبل الميلاد. وقد عثر على حالة فريدة، هي دفن امرأة مع كلبها الأليف.
طبقات من الحجارة المصقولة والمربعة النّاعمة، مقطّعة من الجير الأبيض، وحجارة لامعة، بالغة النعومة، أعطت المقبرة شكل برج أبيض كبير، يحتوي على بلاطات مُثبتة بعناية، كأساس لبناء الجدار الخارجي الدائري للمقبرة، والسطح المستوي مغلق بالبلاط، ومزوّد بمزاريب حجرية؛ لتجميع وتصريف مياه الأمطار.
إنه بناء هندسي احترافي منتظم، وديكورات مثّلت طقوس الدفن، وتراتيل الموت، كرّست - عبر السنوات - فكرة تقديس الفَنَاء، واعتباره رحلة انتقال من دار إلى دار، وعزّزت مستوى الأناقة الروحية، التي حظيت بها الشعوب القديمة في هذه المنطقة.
ما كنّا ندري بما تحمله مقبرة «أم النّار» من مكانة أثرية، فقد كان ما يهمّنا فقط أنها تنضح بالفخار في سهل شَمْل، وكأن الفخار لبشر ذوي أجساد فخارية، دُفنوا في عالمها السفلي. هكذا، كنا نتخيّل أجساد الموتى، أَوَلم يخلق الله الإنسان من صلصال كالفخار؟!.. فهاهو يعود جامداً متصلباً تحت الأرض؛ بعدما غادرته الروح، تفتك به حرارة القبر، فينفجر من ثقل الموت، متناثراً على السطح، تحت وطأة أقدام الحياة.