#مقالات رأي
د. نرمين نحمدالله اليوم
لازلت أذكر شكله المميز في خزانة مطبخنا القديم.. يتربع، وحده، كملك على عرش؛ فيهيأ لي أنه يُخرج لسانه لي مغيظاً إياي، يتحداني أن ألمسه!.. أسأل أمي: لماذا لا نستخدمه كبقية الأطباق؛ فتجيبني ببديهية: «مخدوش.. نتركه كي لا ينكسر!».. والغريب أن بقية الأطباق دونه كانت تنكسر، وبقي هو على حاله.. كنت أكبر وأراه لا يزال مكانه؛ فأبتسم وقد وجدتني أستوعب الدرس بنفسي: «الطبق المخدوش يعيش أكثر!».
متى رأيت الخدش في طبقي أنا.. إذن؟!
ربما منذ سنوات.. عندما خذلتني ورقة اختباري، لأول مرة، بدرجة ليست بالعالية، رغم طول ساعات استذكاري.. لكنني لم أستسلم.. بقيت أجتهد، وأنا أقول لنفسي: «الطبق المخدوش يعيش أكثر!»؛ حتى رأيت اسمي في أعلى لوحة الشرف!
ربما بعدها؛ عندما سخرت مني صديقتي المقربة أمام الجميع؛ فاضحةً بعض أسراري.. شعرت ساعتها بأنها قطعت عنقي!.. ظننت، حينها، أنني سأعيش بقية عمري، ورأسي منكس؛ إذ كيف يرتفع رأس دون عنق؟!.. ومن جديد طفت العبارة المنقذة إلى رأسي: «الطبق المخدوش يعيش أكثر!».. تعلمت كيف أختار صديقاتي، بعدها، على مَهَل.. وعاد رأسي يستقيم على عنق طويل، يكاد يصل السماء!
كم مرةً بعدها خُدش طبقي؟!.. كثيراً كثيراً!.. عندما أخطأ قلبي تأويل أحلام الهوى.. شردته متاهاته بين دروب لا تليق بنعومة دقاته.. لطخ الغدر ثوبه الأبيض؛ حتى ظننت أنه، أبداً، لن يعود ناصعاً كما كان!.. لكن..! لأن «الطبق المخدوش يعيش أكثر!».. كبر قلبي، وتعلم كيف يُعيد صبغ ثوبه الأبيض كل مرة يلطخه فيها الأذى؛ فيرجع بهياً زاهياً كما كان!..
ليس هذا فحسب.. فقد صرت أميز الخدوش جيداً في أطباق الآخرين، مهما كانت خفية؛ فأبذل جهدي؛ لأحافظ عليها؛ كي لا أزيدها دون قصد.. لم يعد الطبق القديم مغيظاً كملك مرفّه على عرش.. بل صار يثير شجوني في كل مرة، وأنا أتحسس خدوشه، بقلبي قبل أناملي.. ربما لأنني وجدت في روحي أشباهها!
أمي كانت تخاف على طبقها المخدوش من الكسر، لكنني كبرت، وأيقنت أنه ربما لا تكون الأطباق المخدوشة بهذه الهشاشة التي نظنها، فربما كانت الخدوش هي التي تمنحنا الصلابة الحقيقية.. يسمونها «جروحاً»، وأسميها «دروس خبرة»، يمنحنا الزمن إياها؛ شريطة أن نفهم العبرة جيداً، ولا نعيد خدش الطبق من الموضع نفسه مرتين؛ كي لا ينكسر!