نوال نصر 13 سبتمبر 2018
شبابٌ وصبايا آمنوا أن طريق الطبيعة أفضل من كل الطرق، فعبروا البحر بقاربٍ لا يُشبه سواه. قصةُ القارب البلاستيكي الذي جاب بحر لبنان من الألف إلى الياء.
على شاطئ الرملة البيضاء في قلب بيروت، يرسو على الرمال الذهبية قارب أزرق اللون، مزنر بقناني بلاستيكية وسُدد، وفي تفاصيلِهِ كثير من الحب لوطنٍ وبيئة وطبيعة وروح الشباب.
الرمال ساخنة جداً. صيفُ لبنان بات حاراً أكثر بكثير من قبل. نقترب من القارب أكثر. نتمعن فيه بشكلٍ أدق، فتلفتنا بساطة العمل، وقدرة تلك القناني البلاستيكية التي يفترض أن تكون مرمية في القمامة، على الإبحار بأشخاص يتجاوز عددهم العشرة.
يقول مدير مؤسسة «شريك» التي أطلقت الفكرة، الشاب جورج غفري: «نحن نبادر لتقليل نسبة التلوث. تحتاج القنينة الواحدة لتتحلل إلى فترة زمنية طويلة تزيد عن 450 عاماً. وكلنا يعلم مضار البلاستيك في تدهور البيئة. قنينة البلاستيك لمعلوماتكم تحتوي على مادة الديوكسين وهي سامة، مسرطنة، تؤثر في الطبيعة والإنسان والحيوان».
يتكوّن القارب البيئي الراسي على الشاطئ اللبناني من نحو 50 ألف عبوة بلاستيكية، جمعت في المدارس والمتاجر والمطاعم والمقاهي والمجمعات الكبرى، وبدل أن تُرمى في البحر باتت قارباً جميلاً، في دلالة على أن ما نعتبره لا شيء قد يكون «شيئاً استثنائياً»، وما نضرّ به البيئة والإنسان والحيوان قد نستفيد منه لمصلحة الإنسان والبيئة والطبيعة وكل الفصائل الحيّة.
تعاون المجتمع المحلي
في التفاصيل التي يرويها غفري: «تعاونت جمعيتنا مع الجامعة اللبنانية الأميركية وبلدية جبيل بيبلوس، ونجحنا في إنجاز قارب بيئي بامتياز. صنعناه في (مدينة الحرف والحضارة) جبيل. قاعدة السفينة من الحديد ووزنها يُلامس الثلاثة أطنان وتغطيها العبوات البلاستيكية. حتى الشراع الذي صممناه على النسق الفينيقي هو من القناني البلاستيكية. واستخدمنا في تسيير القارب ستة مجاديف. واستغرق العمل بالقارب نحو ستة أشهر، لكن التفكير به استمر أعواماً. أطلقنا الفكرة عام 2014 لكن التنفيذ بدأ عام 2015. تمهلنا قليلاً ريثما جمعنا كلفة الحديد التي ناهزت 12 ألف دولار وتابعنا إنجازها بشكلها الحالي في مايو 2018».
شراع قيد الترميم
ندور حول القارب. نحاول أن نتسلقه. هو عالٍ قليلاً. نسأل عن الشراع الفينيقي. يُخبروننا أنه تحطم أثناء انتقال القارب من مكان إلى مكان وهو قيد الترميم حالياً. ندور مجدداً حوله وفي أعيننا قبل الألسنة أسئلة: هل يمكن أن تكون هذه العبوات البلاستيكية قد نقلت عشرة أشخاص من مكان إلى مكان؟ هل يمكن أن نصنع من أي شيء أشياء؟
في هذا القارب انتقل أشخاص من ضفة إلى ضفة، من جبيل إلى محاذاة «الزيتونة باي» في بيروت، انتقالاً إلى الرملة البيضاء قبالة صخرة الروشة. حققت السفينة البيئية، ذات الرمزية الاستثنائية، هدفها فأقلّت أشخاصاً من مكان إلى مكان في رحلة استغرقت زهاء سبع ساعات وجعلت العالم كله يرى أهمية إعادة استخدام أو تدوير المواد والسلع التي تؤذي البيئة.
أول قارب بيئي
قيل إن هذا القارب الذي أقلع من شاطئ إلى شاطئ آخر في لبنان منذ مئة يوم تقريباً هو أول قارب بيئي في العالم. فماذا عن بقية القوارب التي يتردد في بلادِها أنها الأولى بيئياً؟، يجيب صاحب الفكرة: «هناك ربما من سبقونا إلى التنفيذ لكن الفكرة فكرتنا. أردنا تسجيلها في جينيس لكن الإجراءات تحتاج إلى مال لا نملكه».
قبل أن تُفكر مؤسسة «شريك» بهذا القارب البلاستيكي فَكّر مستكشف نروجي عام 1947 بالإبحار في قارب من قشر شجر البلسا، وثبّت قناني بلاستيكية بعوامات وسرح مع ستة أشخاص في بحر سان فرانسيسكو. شجرٌ وقناني وإصرار وعيون الكثيرين على بيئة سليمة في موازاة من يدمرون تحت عين الشمس البيئة السليمة.
لكل مدينة قاربها
شبابُ لبنان المنتمون إلى «شريك» يعقدون في هذه الأيام لقاءات متتالية من أجل تنفيذ ما يعتبرونه خطوة بيئية رائدة وفيها: إحياء عيد وطني لفرز النفايات تشارك فيه كل المدن الرئيسية الممتدة على الساحل اللبناني، على طول الشاطئ اللبناني، من مدينة صور إلى مدينة طرابلس على أن يعلمهم الشباب، الذين تعاونوا على صناعة القارب البيئي، التقنية التي استخدمت من أجل أن تصنع كل مدينة لبنانية قاربها البيئي وتنطلق القوارب كلها في اتجاه قبرص. هذه رسالة بدأ يستعدّ لها شباب «شريك» مع المؤسسات الرسمية في لبنان من أجل القول إلى كل من يهمه الأمر إن لبنان لا يُلوث البحر الأبيض المتوسط بنفاياته بل يصنع منها سفناً بيئية.
السفينة البيئية اللبنانية المستريحة في هذه الأيام على شاطئ الرملة البيضاء تجذب الأنظار وكل من يسأل عن الهدف منها يسمع الجواب: «هذه سفينة مصنوعة من القناني المصنوعة من مادة البلاستيك، التي تدخل في تكوينها مادة الديوكسين السامة التي تتسبب بمشاكل صحية جمة، أقلها مرض السكري والعقم وتشوهات الأجنة واضطرابات في الغدد الصماء ومشاكل جلدية ومناعية وسرطانية وأذى لكل نظم الحياة السليمة».
السلام الحقيقي ما عاد بين البشر والبشر بل بين البشر والبيئة، وهؤلاء شباب عرفوا كيف يعقدون السلام المنشود.