#ثقافة وفنون
نوال نصر 24 سبتمبر 2019
عمر المسرح في بيروت من عمر بيروت، المدينة الشاهدة على تنوع الحضارات والثقافات، لكن، ماذا عن حال المسرح اليوم فيها؟ ماذا عن مسارح منطقة الحمراء في عاصمة لبنان بيروت التي طالما آمن أهل المسرح فيها بمقولة شهيرة: أعطني خبزاً ومسرحاً أعطك شعباً مثقفاً؟
بيروت التي عاشت أجندات ثقافية كثيرة، باتت اليوم شاهدة على إقفال مسرح تلو الآخر في شوارعها، لا سيما أشهرها.. شارع الحمراء الذي كان بوابة ثقافة بيروت إلى العالم.
نمشي في الحمراء. والمحيط وفي «الداون تاون» والجوار. هنا كان (مسرح بابل). وهنا (مسرح المدينة). هنا كان (مسرح التياترو الكبير) الذي عبق قبيل الحرب الأهلية في لبنان، بالطرب والثقافة. أم كلثوم مرّت من هنا ومحمد عبد الوهاب ويوسف وهبي والأخطل الصغير. هنا في (التياترو الكبير) عُرض أوّل فيلم ناطق باللغة العربية «الوردة البيضاء» للموسيقار محمد عبد الوهاب. نتابع في اتجاه الـ(بيكاديللي). وكُلّ من يهتم بالمسرح لا بد من أن يكون قد سمع بالمسرح الأرستقراطي في قلب شارع الحمراء: الـ(بيكاديللي) الذي كان قُبلة نجوم العالم وكانت المطربة فيروز سيدة هذا المسرح. وصورها صمدت على الرغم من كل الركام الذي عاناه هذا المسرح طوال الحرب اللبنانية. ورأى النور في ستينات القرن الماضي، أي قبل 15 عاماً من بداية الحرب، ويستمر في انتظار خطة وزارة الثقافة في لبنان التي تمتدّ على خمس سنوات وتتضمن استثمار 180 مليار دولار للتقدم الثقافي في لبنان.
بحبك يا لبنان
نمرّ من أمام الـ(بيكاديللي). ننظر إلى الأحرف الأخيرة من الاسم الذي تساقطت بعضها في الحرب ولم تعد. يتسلل إلى آذاننا صوت فيروز وهي تغني: «بحبك يا لبنان».
المسرح هو مرآة الشعوب، هو انعكاس الرقي، وهو الشكل الوحيد للابتعاد عن الملل. وهو، أيضاً وأيضاً، أناقة. فها هو الـ(بيكاديللي) قد صُمم أيام زمان على شكل معبد، وأينما جلست فيه، بالثياب الفاخرة، كأنك في الصفوف الأولى. كان جميلاً جداً. سيعود؟ وعدوا وننتظر.
رواد المسرح، أيام زمان، لم ينسوا حتى اللحظة افتتاح الـ(بيكاديللي) في التاسع من كانون الثاني عام 1967 بحدث فني تمثل في انتقال مسرح الرحابنة إلى قلب شارع الحمراء. فيروز هي أوّل من وقف في «هالة والملك» على هذه الخشبة الأنيقة الفاخرة. فهل ستعود إليها؟ هو حُلم. فلنظلّ نحلم كي لا تموت الروح فينا.
في قلب المدينة
نتابع في اتجاه مسرح المدينة. صدى عبارات نضال الأشقر، الفنانة المسرحية التي لعبت دوراً أساسياً في إحياء حراك المسرح اللبناني، في ستينات وسبعينات القرن الماضي، عالياً. هي أسست فرقة «الممثلون العرب» التي جالت في أنحاء كثيرة من العالم وعادت وأسست «مسرح المدينة» عام 1994 في منطقة كليمنصو في الحمراء وعادت وانتقلت بعد معاناة مادية إلى قلب شارع الحمراء وشغلت سينما سارولا الشهيرة التي أغلقت أبوابها هي أيضاً بعد معاناة. مسرح المدينة يستمر بإرادة صاحبته الحديدية مفتوحاً. مسرحُ نضال الأشقر موجع، مؤلم، يضع الإصبع على الجرح بينما رواد المسرح، أو من تبقى من رواد المسرح، باتوا يتأقلمون مع «ثقافات أخرى» في عصر ما عادت فيه ثقافة المسرح تجذب.
الرواد تبدلوا
الحرب اللبنانية بدّلت من طبيعة المسرح في بيروت عموماً ومنطقة الحمراء بالتحديد. ورواد المسرح باتوا من طينة تحب ما يُبهر العين ولا يُتعب القلب. وباتوا، بكلام أدق، يبتعدون عن المسرح الملتزم بقضايا اجتماعية ويُحبذون المسرح الفكاهي أو الاستعراضي.
مسرح بابل في منطقة الحمراء موجود لكن (ربانه) أسد المسرح، العراقي جواد الأسدي، غادره. هو قال لنا إنه فعل هذا بعدما تبدلت أشياء كثيرة في هذا العصر. بيروت تبدلت. الثقافة تبدلت. الإنسان تبدل. ورواد المسرح تبدلوا. جال جواد الأسدي «الهند والسند» لكنه قرر ذات يوم أن يستقرّ في بيروت التي نجحت في تزويده بجرعات حماس فحلق في إبداعه وأسس في شارع الحمراء مسرحه، جنته، مسرح بابل، لكن بيروت عادت وخذلته فوضب أغراضه وغادر مسرحه البيروتي.
شوشو مرّ من هنا
صوّر شوشو (حسن علاء الدين) لا تزال تُزيّن جدران مسارح كثيرة في الحمراء. شوشو، المبدع، رحل عن هذه الدنيا يوم كان المسرح في ألقه وعبثاً حاول كثيرون إحياء مسرح شوشو لكنهم نجحوا في إلقاء الاسم على مطاعم ومقاهٍ لا على مسرح. الجمهور بات يُحبذ «نفس نرجيلة» في مطعم شوشو بدل حضور مسرحية من طراز الكبير شوشو.
مسرح «دوار الشمس» يعاني أيضاً، والقيمون عليه يعرفون أن المسرح ما عاد يُطعمُ خبزاً لكنهم يراهنون على إمكانية البقاء. وكلمة «شمس» تنحدر من ثلاث كلمات: شباب ومسرح وسينما. يبدو أن «دوار الشمس» سيظلّ يحاول التأثير في الشباب وجذبهم من جديد إلى مسرح يفترض ألا يموت.
نتابع جولتنا في الأرجاء. لبنانيون، في المقلب الثاني من العمر، يتحدثون عن مسارح بيروت والحمراء ومونو: عشنا مسرح مارون النقاش ومسرح شوشو ومسرح الرحابنة والمسرحيات الشعرية التي انطلق بها أمير الشعراء أحمد شوقي وعشنا المسرح السياسي مع جلال خوري. وعشنا في زمن كبار يرحلون.
أبو الفنون
شارع الحمراء تغيّر. بيروت تغيّرت. والمسرح انقلب رأساً على عقب. مسارح أقفلت ومسارح تعيش من قلة الموت ومن إصرار فنان مسرحي أو فنانة مسرحية على الإبقاء على هذا الصرح الثقافي حياً ينبض.
شارع الحمراء مرصوف بالتاريخ، بالصوّر، بالرموز الثقافية، بالشعراء والأدباء وبكثير كثير من المسارح التي تهاوى بعضها والبعض الآخر يحاول أن يصمد أو يعود.
المسرح لا يموت، لن يموت، لأنه أب، أبو الفنون، والأب يحيا، أو يفترض أن يحيا، في شرايين من أنجب. فلنتأمل خيراً.