إشراقة النور 3 يناير 2019
قبل أن تحيل عزلتها إلى التقاعد التي دخلتها مُرغمة بسبب فقدانها السمع، أورقت أشجار الشاعرة الفلسطينية عبلة غسان، بوحاً منفتحاً على العالم، من خلال تنصّت روحها لجمال الكون، فأدركت كم هو آسرٌ وعميق. وبعد عودة الصوت عادت عبلة طفلة، تكتشف سر الدهشة لتترجمها في أشعارها وحروفها من جديد. «زهرة الخليج» تقترب من تجربة عبلة الاستثنائية في حوارنا معها.
يوم كسرت المرأة
تحكي الشاعرة عبلة غسان عن رؤيتها في أول مجموعاتها الشعرية «يوم كسرتُ المرآة»، قائلة: «رؤيتي الأدبية فيها تدور حول التشظّي والرحيل والخدوش التي لا تُرى، هي تلك الرغبة الملحّة في التمرد وتحطيم المألوف، لأراني شظايا كثيرة لا تشبه إحداها الأخرى، هي صوت الأنثى الباحثة عن ذاتها في مَرايا الآخرين لتحطمها أخيراً».
• أخبرينا، وكيف سكنك الشعر وسكنته؟
نشأت في عائلة مثقفة، فجدي لوالدتي كان شاعراً، فوعيت على الإيقاع طفلة مسحورة بالموسيقى، لأتساءل منذ صغري عن سبب تميّز جدي عن البقية، ظناً مني أن هناك من يأتيه في الأحلام ليخبره ما يقول، فكنت أحاول تقليده منذ طفولتي المبكرة، لأبدأ مشواري الشعري برفقة والدتي، التي كانت تُدوّن كلماتي غير المترابطة على هيئة مقطوعات، فأنا منذ ذلك الوقت مسكونة بهاجس الشعر والإيقاع لينضج مع الوقت.
• قصة إبداعك، على الرغم من معاناتك وقبل أن تستعيدي سمعك، كيف يمكن أن تمثل إلهاماً لمن هم في ظروفك؟
بدأ فقداني السمع بصورة تدريجية منذ الصف السادس، حين شعرت بفقداني بعض الأصوات والحروف، حينها كابرتُ طويلاً على ذلك، وعوّضت هذا الفقدان بالقراءة المكثفة التي أثمرت في أشعاري وكتاباتي، كما أن الفراغ والعزلة الطويلة كانا معيناً خصباً للإلهام والتجليات الفكرية بالنسبة إليّ.
ولادة جديدة
• حدّثينا عن مكرمة - صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد ابوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة بدولة الإمارات- لعلاجك، وكيف غيرت حياتك؟
عام 2014 فقدتُ نعمة السمع تماماً، بعد أن وصل العصب السمعي إلى ما يُعرف بمرحلة الموت، وأصبحت السمّاعة عائقاً أكثر منها معيناً، ليُقرر الأطباء حينها حاجتي إلى «زراعة قوقعة». لكن نظراً إلى تكلفة العملية الباهظة، ولكن حينما التحقت بالمشاركة في الموسم السابع من برنامج «أمير الشعراء» كنت وقتها في مرحلة حرجة بحياتي، بعد أن بلغت العزلة أوجها لديّ لأعتزل كل شيء، إذ إنني شاركت وأنا لا أسمع حتى صوتي، لتنتهي هذه المسيرة بولادة جديدة، بعد أن وجه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، بعلاجي عبر إجراء عملية «زراعة قوقعة» لي في مستشفى المفرق، فكانت بمثابة ولادة ثانية بالنسبة إليّ، بعد أن عدت لسماع الأصوات بعد 17 عاماً من التشويش والضجيج، فعدت بشغف طفلة تبني ذاكرتها الصوتية وذائقتها الموسيقية.
دهشة
• كيف سمعت صوت النغم الكوني قبل العلاج وبعده؟
شغلتني لفترة طويلة من حياتي، فلسفة الأصوات، إذ كنت أحاول تصويرها، وفي أحيان كثيرة تلوينها، فهذه الموجات المتحركة في الفراغ والتي ترتد في داخلي ضجيجاً لا يهدأ، كثيراً ما كنت أتخيل طبيعة النّبرات، وفي بعض الأحيان احتمال الكلمات، حيث كنت أعيش في عالم غير مفهوم بالكامل، لأعود لأكتشف النبرات بدرجاتها، وكل ما تختزله وتحمله في طيّاتها من أحاسيس ومشاعر، ومعانٍ كامنة بين الزفير والشهيق والآهات.
• بأي من الشعراء والاتجاهات الشعرية تأثرت؟
بدايةً، تأثرت بالشاعرين بدر شاكر السياب ومحمود درويش، ثم بشعراء المتصوفة، وبكل من يكتب شعراً جميلاً يلمس وتراً كامناً داخلي.
• ماذا أضافت إليك مشاركتك في برنامج «أمير الشعراء» إبداعياً؟
«أمير الشعراء» نقطة انطلاقة وبداية أضافت إليّ، أصدقاء أتعلم منهم الكثير، فهو فرصة ننهل بها من تجارب بعضنا البعض، لتنضج القصيدة وتُحلق بنا. فأنا أرى أن الشعر لا نهائي، فهو وليد التجربة والاحتكاك الثقافي والبُعد الإنساني. و«أمير الشعراء» المفتاح الذي يفتح لنا أدراج الغيم لينهمر مطر الإبداع.
• الصوفية منحت الكلمة جسداً وروحاً.. فماذا وهبَت قصيدتك؟
وهبتها متسعاً لرؤية جديدة وحلم لا يؤولان، والكثير الذي ما زلت أحاول اكتشافه، وربما قوله!
رؤية ومشروع
• هل استلهم «مشروعك الروائي» من شعرك؟ أم نهل من منبع آخر؟
لغتي في الرواية شعرية إلى حد بعيد، وهذا مأخذٌ عليها، فروايتي «اندثار» كان فيها الكثير من الشعر سرداً أو حتى توظيفاً، وهذا ما أعمل على تفاديه في مشروعي الروائي المقبل، كما أنني أرى في الرواية متسعاً للتجربة.. فهي قالب لكل القوالب الشعرية والفكرية، بل حتى النقدية.
• وطن مؤجل وقصة حب بين قذيفتين، هذا بعض مما تعيشه القضية الفلسطينية في مفرداتك. فكيف تعيش في مسارب روحك وعقلك؟
فلسطين قصيدة لا تنتهي، فكل ما فيها من حكايات ووجع وجمال وتاريخ أرض خصبة للإلهام، كتبت الكثير عنها، ولكنني الآن أنوي التحول إلى نوع جديد من الشعر، يبتعد عن القضايا الكبيرة ويقترب من الذاتية الاعترافية أكثر.