محمد عبود السعدي 24 أكتوبر 2018
لا يخفى على أحد أن مدينة نيويورك هي الأكبر نفوساً في الولايات المتحدة، بعدد سكان يطاول تسعة ملايين نسمة، تأتي بعدها بعيداً لوس أنجلوس بنحو 3.8 مليون نسمة، نعلم أيضاً أن نيويورك، فضلاً عن كونها المدينة الأهم اقتصادياً في الولايات المتحدة، فإنها تعد أشبه بـ«عاصمة عالمية» لعالم المال والبورصة والصيرفة الدولي، المرتكز في حيها الشهير المسمى «وول ستريت».
لذا، لا يندر أن يتوهم البعض بأن نيويورك تحتل أيضاً منزلة عاصمة الولايات المتحدة الأميركية. طبعاً، نعرف جميعاً أنها ليست كذلك، وأن العاصمة الرسمية واشنطن، أصغر 12 مرة من نيويورك لناحية عدد السكان، التي تقع إلى جنوبها على بعد 370 كيلومتراً، فلماذا لم يتم اختيار المدينة الأكبر كعاصمة لأقوى قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية في العالم؟
في الواقع، كانت نيويورك فعلاً العاصمة، إنما لفترة وجيزة دامت ست سنوات بين عامي 1784 و1790، ولم تكن الوحيدة التي تبوأت منزلة «عاصمة» لفترة مؤقتاً، فثمة سبع مدن أميركية أخرى نالت ذلك التعريف يوماً ما (وهي: يورك، أنابوليس، بالتيمور، لانكستر، فيلادلفيا، ترينتون وپرنستون)؛ وسبب إعطائها لقب عاصمة هو أن كلاً منها استضاف دورة أو أكثر من دورات الكونغرس الأميركي، الذي اجتمع للمرة الأولى في فيلادلفيا، في انتظار الانتهاء من إنشاء العاصمة الرسمية واشنطن.
ففي 21 فبراير (شباط) 1787، بعد 10 سنوات من اعتماد الدستور، قرر ممثلو الولايات بناء عاصمة فيدرالية مع الإبقاء على استقلالية كل ولاية، فتفادوا نيويورك لئلا تشعر المدن الكبيرة الأخرى بالغبن، لاسيما فيلادلفيا، منافستها الأهم آنذاك، في المقابل، اختاروا موقعاً سموه «واشنطن دي سي» (أي «ديستريكت أوف كولومبيا») تيمناً بجورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة، وكريستوفر كولمبس، مكتشف القارة، فالمدينة لم تكن موجودة إنما تبرعت بأراضيها كل من ولايتي ميريلاند وفيرجينيا بالمناصفة، وكانت أرضاً بوراً، تنز مياهها الجوفية على السطح بحيث تشكل أشبه بمستنقع ضحل كبير على جانبي نهر پوتوماك.
وقد يسأل سائل: لماذا وقع خيار ممثلي الولايات على ذلك الموقع تحديداً؟ السبب أنهم أزمعوا إيجاد مكان وسط بين ولايات الشمال والجنوب تفادياً لإثارة الحساسيات بين النصفين المتنافرين وقتها، اللذين كانا يكنان البغضاء أحدهما للآخر منذ تلك الحقبة، قبل الحرب الأهلية بعشرات السنين. في أي حال، تم فعلاً إنشاء مدينة واشنطن من العدم في تلك البقعة «المحايدة»، فأصبحت العاصمة الفيدرالية الرسمية الدائمة، واستُبعدت نيويورك نهائياً.