لاما عزت 9 يوليو 2018
كنت في مطار كوبنهاجن، عائداً من مؤتمر لويزيانا للآداب العالمية. أرفع رأسي قليلاً داخل الفضاء الأبيض الواسع، لا أحد ينظر إلى الآخر. الكل غارق في عالمه الصغير. الناس منهمكون في القراءة. فجأة رأيت وجهاً ناعماً جميلاً لا يمر عادياً، لامرأة ظننتني أعرفها. في اللحظة التي هممت بسؤالها، انهمكت في كتابها، وغرقت فيه من جديد. كنت أريد أن أسألها سؤالاً صغيراً: ألم نلتق من قبل؟ ربما لم أرها أبداً في حياتي، لكن وجهها كان أليفاً وغريباً. الهجنة ظاهرة على ملامحها. خلاسية بأتم معنى الكلمة. استقامة شمالية، عينان خضراوان مثل حديقة، بامتداد آسيوي. بشرة تميل نحو سمرة خمرية أقرب إلى الهنود. ابتسمت في أعماقي من فكرة الأصول، وأصل الإنسان؟ ومختلف الخزعبلات التي تخفي عنصريتها تحت مختلف الغطاءات. كم جبنة بعيدة أو قريبة اشتركت في تكوين هذه الشابة؟ بدأت أحلل ونسيت الكتاب الذي بين يدي. شيء أوروبي أكيد في البنية الجسدية، ربما جرماني أو حتى أميركي، في العينين الممتدتين شيء ياباني أو كوري. السمرة والوجه الدائري يقتربان من الشكل النموذجي الهندي. عدت إلى رواية جورج أورويل 1984 التي كانت بين يديّ وتروي عالم الرقابة والجريمة الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، في عز الحرب الباردة. نسيت الفتاة. وقمت للركوب. جلست في 5A. ثم جاءت امرأة لتجلس بجانبي عرفتها من عطرها النسوي، لكني بقيت منهمكاً في كتابي ولم أرفع رأسي. كنت بجانب النافذة ولا أزعج أحداً يضطرني إلى القيام لتركه يمر. واصلت القراءة. وعندما أصبحت الطائرة في الفضاء تحركت لأمشي قليلاً في البهو. اعتذرت للشابة التي رفعت عينيها. ضحكتْ كأنها عرفت ما دار برأسي لحظتها، ضحكتُ: أعتقد أننا التقينا قبل اللحظة. قلتها بالفرنسية وأنا لا أعرف إن كانت لغتها الفرنسية جيدة. فردت بفرنسية شديدة الأناقة: أظن. المؤكد أننا اشتبكنا بنظرتينا. Je crois. Ce qui est sûre c'est qu'on s'est croisés du regard. مشيت قليلاً ثم عدت للجلوس وأنا أتساءل: أي قدر هذا؟ عندما فتحت كتابي، التفتت نحوي: ماذا تقرأ؟ أجبت: الطبعة الإنجليزية من رواية جورج أورويل الاستشرافية: 1984. قرأتها منذ سنوات بالفرنسية. قالت، جميلة. لكن نظرته للأشياء أيديولوجية وأحادية. طبعاً هو كاره لستالين وهذا مفهوم، لكنه نسي أن يكره بقية أمراء الحرب الذين كانوا وراء تدمير البشرية، هتلر، وأنا أعرف العقلية النمساوية المتعجرفة من جدتي، ونسي خبث وملعنة الإنجليزي تشرشل، أشبه دائماً جدي به بسيجاره الخشن. لا غرابة هو من مدينته نفسها. جدي الذي كان تاجراً في الحرير تزوج بيابانية، وبقي هناك إلى أن أخلفه والدي قبل الانهيار الكلي للحرير. أدهشتني بملاحظاتها الدقيقة عن الرواية. كانت أدق مما تصورت.
قلت لها ماذا تقرئين؟ قالت: راوية جميلة وإنسانية جداً. أحب هذا النوع. يمسني في العمق. ماذا أعجبك فيها تحديداً؟ سألتها. قالت: تلك الأقدار الهشة التي تشد على خيط رفيع. انظر هذا ينفي يوم احتفال عام بالانتصار. يحب امرأة في طفولته يلتقي أو يتوهم أنها سافرت نحو مدينة أمستردام، يهاجر نحوها وينسى أنه كان يركض وراء قدر لم يكن بعيداً عن المقابر الهولندية القديمة. شعرت بارتجاف في رجلي. شعرت هي بما انتابني فجأة. سألت: هل قلت شيئاً قاسياً. قلتُ لا. أثارني فقط حديثك عن الأقدار. قالت. رواية يجب أن تقرأ. كدت أقول لها هذه مقرصنة من روايتي شرفات بحر الشمال، ولا أدري لماذا تريثت؟ قلت يجب أن أقرأها. تشبه بشكل غريب رواية شرفات بحر الشمال. قالت هي نفسها. ووضعت الرواية بين يدي، في طبعتها الفرنسية. سألتني عن رأيي فيها. قلت بشكل آلي رواية جيدة. أهم شخصية أعجبتني فيها المجنونة، وكليمونس. انفرجت عيناها. قالت: أنت قرأتها إذاً حقيقة؟ قلت: نعم. عادت إلى القراءة، كانت في الصفحات الأخيرة. وعدت إلى رواية 1984. من تلك اللحظة الصامتة، كان قدر جميل قد بدأ ينسج حريره بشكل جميل، وبهي. بعد أسبوع كلمتني في التليفون، قالت جملة واحدة ثم صمتت قبل أن نلتقي بعد شهر: لماذا لم تخبرني؟ أخبرك بماذا؟ لم أسمع إلا صوت السماعة وهي تعود إلى وضعية الغلق.