#مشاهير العالم
طارق الشناوي 23 أكتوبر 2011
أكثر من جائزة كانت من نصيب الفيلم الإيراني "انفصال نادر وسيمين" خلال "مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي". جائزة لجنة التحكيم الخاصة نالها مخرجه أصغر فرهادي. وقبلها حصل أيضاً على جائزة أفضل مخرج في الشرق الأوسط سلّمته إياها مجلة "فارايتي" على هامش المهرجان.
وكان الفيلم قد استحق جائزة "الدب الذهبي" من "مهرجان برلين" الأخير، بالإضافة إلى جائزة أفضل تمثيل لبطليه. الفيلم كان الأهم في "مهرجان أبو ظبي" رغم أنّه حصل على جائزة لجنة التحكيم بينما الجائزة الكبرى نالها فيلم شاركت في إخراجه أيضاً الإيرانية مرجان سترابي وهو "دجاج بالبرقوق". الحقيقة أنّ الشاشة كانت تنضح سينما في فيلم "انفصال نادر وسيمين".
بداية الفيلم تدعونا مباشرة لدخول عالم المخرج. تقدم لنا الكاميرا الشقة التي ستستحوذ على القسط الوافر من الأحداث. بكثير من التمهّل، يطلّ وجه رجل عجوز تسبقه ملامحه المجهدة التي تبدو عليها أمارات "الألزهايمر". الإحساس ينتقل إليك وأنت تشاهد ما يجري أمامك عن تلك العلاقة التي يفوح منها الحب والوفاء والمعاناة. وفي لحظات، نكتشف أنّ سرّ الحزن الذي تعبّر عنه نظرات البطل بيتمان معادي هو انفصاله عن زوجته ليلى حاتمي. ما أدى إلى حيرة ابنته التي تعيش معه وتريد الأم أن ترعاها وتنتزعها من الأب ويصبح حكم القضاء في النهاية هو انتظار رأي الفتاة ذات الـ 11 عاماً التي ستحدد مع من ستعيش.
الكاميرا التي تتابع اللقطات داخل هذا المكان الضيق، تكشف عن لياقة إبداعية للمخرج الذي تلتقط عينه اللمحات المدهشة. يستوقفك في التترات أسلوبه وهو يقدم الشخصيات من خلال جهاز تصوير المستندات باعتبارها وثائق لأنّه يمهّد بعد ذلك لتتابع الأحداث في إطار أجهزة التحقيق وأقسام الشرطة والقضاء.
لا تجد في هذا الفيلم إدانة مطلقة لأحد. الكلّ يضطر للكذب في موقف ما، ويعترف بأنه لم يكن يملك خياراً آخر. وتكتشف أنك سامحت في النهاية كل أبطالك وتسامحت حتى مع تلك الأكاذيب لأنّك معرض للوقوع في الأخطاء نفسها.
نحن نصدق شخصية البطل في معاناته، فهو لا يستطيع ترك أبيه المريض والسفر كما تريد الزوجة. ولهذا يقع الانفصال الحتمي بين الزوجين. إنّها دراما عائلية، لو وقعت تحت يد فنان محدود الموهبة، لقدّم منها عملاً فنياً لا تتجاوز مفرداته تلك الحكاية عن الظرف الاجتماعي والفتاة الحائرة بين أبويها.
لكن فرهادي وجدها فرصة لكي يطرح بإحساسه العالي الفروق الطبقية في المجتمع الإيراني وتلك النظرة المليئة بالأشجان والأحزان التي تعيشها طبقات مهمّشة في المجتمع عبّر عنها المخرج بتلك الإطلالة على الخادمة التي تعمل في البيت لرعاية العجوز في غياب ابنه. هذه الخادمة مترددة أمام ضميرها ودينها في تغيير الملابس الداخلية لمريض الألزهايمر العاجز عن الاعتناء بنفسه... أما ابنة الخادمة، فتقول بطفولة وعفوية لأمها إنّها لن تخبر والدها بأنّها غيّرت ملابس العجوز ثم نرى هذا الأب العصبي المحبط المليء بالغضب والحنق على الأثرياء.
تلك المعلومة العفوية تشير إلى أي مدى قد تصطدم الخادمة مع هذا الرجل، كأنه يضع رتوشاً تتكون بعدها الشخصية أمامنا في تسلسل وانسياب فيرسم اللوحة كاملة. اللحظة الفارقة تأخذ أيضاً من مكونات الحالة التي نعايشها وهي مريض الألزهايمر الذي يغادر منزله حافي القدمين ولا تنقذه سوى الخادمة التي تعثر عليه. وتتعدد المواقف لنصل إلى الذروة الدرامية عندما يصبح الاتهام بالإجهاض هو السيف الموجه للبطل من قبل الخادمة بعدما أصر على مغادرة منزله ودفعها إلى السلم. وقد اتهمته بقتل الجنين وهي تهمة تصل عقوبتها إلى السجن ثلاث سنوات. ولهذا يكذب أمام القاضي مؤكداً أنه لم يكن يعرف أنها حامل لكنه يعترف بذلك لابنته. ويصبح هنا كاذباً أمام القانون ولكن ليس أمامه حل آخر. فهو في اللحظة التي دفعها، لم يكن يدرك فعلاً أنّها حامل. إلا أنّ القانون لا يتمتع بتلك المرونة في التعامل مع هذا النوع من الجرائم التي تقف فيها على حافة الإدانة بسبب عدم استيعابك في لحظة وقوع الجريمة احتمال المخاطر التي قد تواجهها!
الخادمة أيضاً تكذب. فهي لم تجهض بسبب دفعه بل أثناء بحثها عن والده في الشوارع فتفقد بعدها الجنين وتعترف بذلك، وترفض أن تقسم على المصحف أنه أجهضها. بينما زوجها المحبط الذي يشعر أن الصفقة التي سعى إليها ستضيع، لا يجد أمامه سوى صفع نفسه وتحطيم زجاج عربة الرجل والفرار بعيداً!
وفي مشهد شديد البلاغة، يلتقي الزوج والزوجة في المحكمة ويتوجه القاضي للابنة بأن تختار مع من تعيش، فتطلب ألا تجيب في حضور الوالدين. ثم نشاهد الزوجين في ساحة الانتظار وفي مواجهة مع النفس أثناء كتابة تترات النهاية. نحن الذين نفكر ونتكلم وربما نأمل أيضاً بدلاً من البطلين أن يعودا سوياً.. دقيقتان أثناء كتابة التترات والمشاهد هو الذي يستعيد تفاصيل العلاقة ويكتب هو النهاية لبطليه بدلاً من المخرج.
طرح أصغر فرهادي كل القضايا التي يعيشها المجتمع برؤية إبداعية وميزانية محدودة لتجد أنه في هذه الرحلة السينمائية، كان يحلل الإنسان في داخلنا في أي زمان ومكان. وكان بحق شريطه أفضل أفلام "مهرجان أبو ظبي" من خلال تلك الشاشة التي تتكلّم فقط سينما، حتى ولو اكتفت لجنة التحكيم بمنحه فقط جائزة لجنة التحكيم الخاصة!