#تحقيقات وحوارات
كارمن العسيلي اليوم 11:00
الدكتورة مليحة محبوبي جاءت إلى الإمارات حينما كانت رمالها تتحدث - بصمت - عن أمجاد قادمة، حاملةً في قلبها آمالًا وحنينًا إلى أرض لم تعرف سوى الطموح؛ فَدَاوَتْ - بيدَيْها - نساء الإمارات في خمسينيات القرن الماضي، وبعينيها شهدت نهضة وطن، ورأت القرى تتحول إلى مدن، تزهو بناطحات السحاب، والصحراء تكتسي عباية خضراء، تروي قصصاً من الإبداع والتحدي.. وبمناسبة الاحتفال بعيد الاتحاد الـ53، طرقنا بابها؛ لنسمع حكاياتها، ونستعيد معها ذكريات ما زالت تزهر في قلبها، رغم وصولها إلى عامها الـ90.
في منزل ابنتها، الواقع بجزيرة ياس في أبوظبي، استقبلتنا الدكتورة مليحة، والابتسامة ترتسم على وجهها المزين بتجاعيد لم تَقْوَ على محو جمال ملامحها؛ فبدت أنيقة بفستانها الوردي، ووشاحها الشفاف الذي لفته حول عنقها برقي، كأنه يروي قصة امرأة جابت سنين العمر، وظلت تنبض بالحب، والعزم. تسريحة شعرها، المرتبة، تُبرز لونه الأرجواني المائل إلى الاحمرار، وتترك خصلاته تلامس وجنتَيْها، كما تلامس الرياح رمال الصحراء، وتخفي أسرار شباب لا ينضب معينه. أما عيناها، فتلمعان ببريق الذكرى، بإشراقة لا تنطفئ أبدًا.
البداية
تخبرنا مليحة، التي ولدت في إيران عام 1934، عن علاقتها بالإمارات، التي نُسجت ملامحها منذ أن التقت زوجها الدكتور ثابت، الصيدلاني الذي كان يعمل في العين منذ عام 1954. وبحنان وخجل، تروي قصتها، حينما عرف ثابت أن شقيقة أحد أطباء الأسنان، الذي يعمل في دبي، طبيبة ماهرة تقدم الرعاية إلى النساء في موطنها. لم يتردد ثابت، وسافر إلى إيران ليطلب يدها من والدها. ورغم أنها لم تكن تعرفه، لكنها - بمشاعر المرأة، وحدسها الثاقب - أدركت أنه رجل يستحق الثقة، فقبلت به، ولم يغب عن بالها أنها ستكون قريبة من شقيقها المتزوج من صديقتها المقربة، ما جعل القرار أكثر دفئاً وطمأنينة. وتتابع مليحة قصتها، مشيرة إلى أن ثابت كان يبحث عن زوجة تكون طبيبة نسائية، حيث كانت حاجة النساء ماسة إلى الرعاية. وبالفعل، خلال أسبوعين، تزوجا، وشدت مليحة رحالها إلى ما يعرف اليوم بدولة الإمارات العربية المتحدة.
ورغم أن الحياة كانت صعبة، والتحديات جسيمة، لم تفقد الدكتورة مليحة شغفها بمساعدة الآخرين، تقول: «وصلنا إلى العين، وكانت صحراء ممتدة، وبها بضعة متاجر صغيرة فقط». ولكي يصل الزوجان؛ قطعا رحلة طويلة، استغرقت 24 ساعة، عبر الحافلات، والقوارب؛ للوصول، واشترى الدكتور ثابت سيارة «جيب»؛ ليتمكنا من التنقل في الرمال.
استقرار.. وطيبة شعب
توقفت الدكتورة مليحة قليلاً عن الحديث، ومررت يدها على شعرها، تُبعد خصلاته عن عينها، تلك اليد التي يتجسد تاريخٌ في كل خط رسمه الزمن عليها، لكنها لا تزال تحمل من القوة ما يجعلها قادرة على لمس الأرواح. فكل عرق في يدها ينبض بحكمة الحياة، كأنها تعلمنا أن الزمن قد يترك أثره، لكنه لا يطفئ القوة التي تسكننا. وقبل أن تكمل روايتها، تنهمك في طلب تقديم الضيافة إلينا، من تمر وقهوة وفاكهة، وبعفوية تقول: «كنت أنام على الأرض في منزل قديم، وذات يوم رأيت مشهدًا صادمًا؛ هو أن دجاجة من الدجاجات التي كانت تعيش معنا في البيت ذاته، تلتهم أفعى، فارتعدت خوفًا، وقررت وقتها ألا أتذوق من بيض تلك الدجاجة، وطلبت من زوجي أن يتخلص منها، لأنها لا ترغب في رؤيتها؛ خوفاً من الأفعى، التي بداخلها»، وتتابع (ضاحكة) أن علاقتها بالأفاعي غير جيدة على الإطلاق، ما جعلها تصر على الانتقال إلى منزل علوي، بعيداً عن تلك الزواحف. هكذا انتقلت للعيش في الطابق الثاني من قلعة «الجيمي» حالياً، تفترش الأرض، وتتخذ من الستائر حجابًا يحمي خصوصيتها. ورغم خوفها الدائم من الأفاعي، لم يعرف اليأس طريقًا إليها؛ فقد كانت قوتها المستمدة من إيمانها، ورسالتها، أعظم من كل المخاوف. وتتذكر كيف أنها، ذات مرة، واجهت أفعى أثناء عودتها إلى المنزل، وهي تحمل ابنها الرضيع بين يدَيْها، فانطلقت راكضة خائفة، إلى أن تلقفتها إحداهن، وساعدتها، وهدأت من روعها.
تستلقي على كرسيها، وتسند ظهرها محدقة في سقف المنزل، مستعيدة ذكريات جميلة، وتقول: «كانت طيبة أهل العين، وكرمهم الدافئ، بمثابة سند قوي لي في غربتي. فقد وجدت في وجوههم ابتسامات صادقة، وفي كلماتهم ترحيبًا يفوق الوصف. ورغم قسوة الظروف وصعوبة الحياة آنذاك، لم يترددوا في إظهار الحب والامتنان لنا. كانت الأمهات يطرقن بابي ليس فقط طلبًا للمساعدة، بل محملات بالدعوات الصافية، والقلوب المملوءة بالعرفان».
وجدت مليحة، الشابة القادمة من بعيد، بين أهل العين عائلة جديدة تحتضنها بحنان وتقدير، ما خفف وطأة الأيام الصعبة، ومنحها دافعًا لمواصلة رسالتها الإنسانية. ووفق روايتها، كانت النساء يتوافدن إليها طلبًا للمساعدة، بأيدٍ خاوية من المال، فيدفعن ما تيسر من طعام بسيط. ومع ذلك، كانت ترفض ما يقدمنه برفق، وتقول لهن بصوت كله حنان: «أنتن أولى به، فأنتن أنجبتن، وأجسامكن تحتاج إلى التغذية أكثر مني».
كانت قصص النساء اللاتي ساعدتهن تترك أثرًا عميقًا في نفسها. ففي كل مرة، حين عودتها إلى بيتها المتواضع، كانت تشعر بإنجاز لا يضاهيه شعور آخر، فقد كانت تعلم أنها لم تذهب إلى الإمارات فقط لمرافقة زوجها، بل لأداء رسالة أعمق وأكبر مما توقعت. ورغم شح الإمكانيات، وقلة الأدوات الطبية، لم تتراجع مليحة وزوجها عن دورهما. فكانت تتنقل عبر الرمال؛ للوصول إلى النساء في القرى البعيدة، حاملة معها حقيبة طبية، تحتوي على القليل من الأدوات والأدوية الأساسية؛ فعالجت أمراضًا كانت تشكل تهديدًا حقيقيًا للنساء، من مضاعفات الولادة إلى الأمراض المعدية، التي كانت تنتشر بسرعة في غياب الرعاية الصحية المناسبة.
القائد والأب الحنون
تحدثت الدكتورة مليحة عن لقاءاتها الأولى مع المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وكيف كانت منبهرة بشخصيته القيادية، التي تجمع بين الحكمة والتواضع، فتقول: «كان رجلاً ذا نظرة ثاقبة، يعامل أبناء شعبه كأنهم جزء من عائلته الكبيرة. وكان دائم السؤال عن أحوالهم، ويشعر بمسؤولية عظيمة تجاههم». كانت ترى في الشيخ زايد، طيب الله ثراه، القائد، الذي يخطط - ببصيرة - لمستقبل أفضل لشعبه، وكانت تصفه بقولها: «كان الشيخ زايد، طيب الله ثراه، أبًا لكل شخص في هذه البلاد، ويطمح لأن يرى الجميع في أحسن حال».
بعد سنوات من الجهد والعطاء، وعندما بدأ الحلم يتحقق، ونشأت دولة الإمارات العربية المتحدة، شعرت الدكتورة مليحة بالفخر؛ كونها جزءًا من تلك المسيرة الملحمية؛ فقد كانت تعلم أن تلك اللحظات الصعبة، التي عاشتها جزء من تاريخ هذا الوطن، وأن جهودها ساهمت في بناء أجيال جديدة، تتمتع بالصحة والأمل. وتروي الدكتورة مليحة، بحنين، لحظة لا تُنسى؛ عندما كانت تتجول في شوارع أبوظبي، وتحديدًا في منطقة الكورنيش، حيث وقفت للحظة، ونظرت إلى الأبنية الشاهقة، التي تحتضن السماء والشوارع النابضة بالحياة؛ فغمرتها مشاعر جياشة، وامتلأت عيناها بدموع لم تستطع كتمانها. في هذه اللحظة، تقدمت منها امرأة؛ ظنت أنها بحاجة إلى مساعدة، فسألتها بلطف عن حالها؛ ولم تكن تلك المرأة تعلم أن الدموع التي شهدتها دموع فخر وفرح؛ دموع امرأة عاشت؛ لترى حلمًا تحول إلى واقع، ووطنًا ينمو، ويتألق، أمام عينيها، بعد سنوات من الصبر، والعمل، والمثابرة.
«جائزة أبوظبي»
عام 2008، كرّم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، مسيرة الدكتورة مليحة، وزوجها الدكتور ثابت، المليئة بالعطاء والرعاية الطبية لأهالي العين، بمنحهما «جائزة أبوظبي»، تقديراً لإسهاماتهما الجليلة، وعرفاناً بالتفاني والإيثار في حياتهما الخدمية قبل تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة. وتحكي الدكتورة مليحة - بفخر - عن دورها في ولادة الآلاف من أبناء هذا الوطن، واللحظات والأسماء التي مرّت بين يديها؛ فشكّلت جزءاً من حكايتها الخالدة في سجل الوطن، وقصة ترويها العين.. بحب، وامتنان.