#مقالات رأي
لولوة المنصوري 5 يونيو 2020
عن الفن الأدبي الذي يحملني كمنطاد سريّ في الكون، اجتاز به صحارى الرّعب والذعر من الوباء، عن الفن الذي يسكنني في هذه المرحلة لأصلّي مع الحمام على سطح الدار أو أصير ناياً في أُذن الرّيح، أو أحرّك جداراً وأمدد سماءً مجهولة، الفن الذي ينقذني هذه الأيام من بؤر الأخبار والعلامات ونساء الإشاعات وألغام الذعر، هو الشعر، هو العبور الأمثل لخطاب الروح حين تبدو حركة الأشياء ومحدثات الحياة ملبدة ومشبعة بالغموض، الشعر طريقتي لامتصاص الذهول والصدمة من أفعال العالم، فأنا عاجزة عن سرد إيضاحات يومية في مرحلة العزل الصحي العالمي ولو على سبيل المذكرات أو بسط رؤية شخصية حول مجريات الكارثة البيولوجية، مشاعري مُلتبسة غائمة، إنني أسرد فقط حين تكون مقاصدي نحو النص معززة بالإيضاح، وسماوتي اللغوية ممتدة، ورحلتي منتشية بتدابير الرّاحة.
لا مكان للراحة في ظل استشراء الروح الجمعية القلقة، لذا أعبُرُ هذا الظل القاتم المتجذّر إلى رئتي بمحاولات اقتحام تخوم الشّعر، وإن كانت الكلمات المنعتقة موسومة بالتقطّع والتبدد، إلا أنه لا شكل آخر في الكتابة الراهنة يمكنها أن تجنح نحو منازل الضياء والتحرر والتجرّد من كثافة المصير المجهول والنفاذ إلى أدق أسرار القلب، إلا بالخطاب الشعري ومحاولة التنفّس شِعراً . الشعر هو أصل تكون الأشياء والجذر الأول للكينونة، ها أنا أحاول جاهدة العودة لأصل التكوين، أكنت بحاجة لكارثة عظمى كي أطلق أجنحتي وأقرر العودة لجذوري اتباعاً من دون قصدية مدارج نصيحة الشاعر النمساوي ريلكه: « لا تكتب الشعر، إلا إذا شعرت بأنك ستموت إن لم تفعل».
أحاول بالشعر أن أنهض مجدداً وبوقار من طيني، وأحفر طريقاً ينشد البقاء، لكني سأعاند، فأنا على يقين بأن ما من إنسان ينثر اقترابه من الوجود بسؤال، إلا وفي أبعاده السحيقة ونواته المركزية (شعر يفتح عينيه) على تأويل الوقائع وتأمل الفوضى من خلال ملامسة الجوهر، أحاول بالشعر إعادة الجوهر، و خلق لغتي وكياني وخلق وجودي الخاص، بدءاً بإعادة سؤال الهوية: من أنا؟ ولماذا جئتُ في هذا الزمن بالتحديد؟ هذا السؤال الرمزي الباقي على قيد الصيرورة والأبد، لماذا لم يُشبع بفضاء السرد؟ ألأنه في أصل كيانه سؤال شعري يخاطب الجانب السريّ في الإنسان الأول؟ هذا السؤال الذي بدأ يتعاظم في الوقت الحالي في ساحة المواجهة غير المتكافئة مع عدو لا مرئي ينمو في الرذاذ، ليكتشف الإنسان مدى عجزه وضحالة بصره وبصيرته. إنها بداية الاستلهام إذن، بداية الكشف عبر البدء الشعري بأول قصيدة تشوّفيّة .