مليكة أحمد 25 مارس 2019
هناك بعيداً بين قمم «جبال الهيمالايا» المهيبة، وخلف كتل ضبابية كثيفة، تختبئ مملكة صغيرة، لا تُشبه إلا نفسها، مملكة تتجرع نخب السعادة المتوارثة أباً عن جَدّ، وترقص سابحة في فلسفة الرّضى والقناعة، انعزلت عن العالم الخارجي مدة طويلة، خوفاً من أن تلحق بها يد حاقدة، تهاب الغريب وتحضن القريب. السعادة بالنسبة إليها ثروة لا تُقدر بمال ولا جاه، ما جعلها تصنّف ضمن أكثر البلدان والأماكن سعادة في العالم. تتساءلون من تكون؟ وهل هي حقيقة؟ نعم. هي أقرب إلى الحلم وأبعد من الخيال!.. إنها «مملكة بوتان»، حيث السعادة والسلام عنوان لها.
لا تتعدّى مساحة «مملكة بوتان» الواقعة بين بلاد التّبْت والنيبال، الـ47 ألف كيلومتر مربع، وبعدد سكان لا يتجاوز الـ750 ألف نسمة، لكنها في المقابل تُعدّ أرضاً خصبة ومكتفية ذاتياً واقتصادياً، منذ انفصالها عن التبت في القرن الثامن، يعيش سكانها في سلام مطلق. وقديماً، لم تكن المملكة منعزلة عن العالم الخارجي بالمسافات فحسب، بل إن خوفها من زوال إرثها وثقافتها، جعلها تَنبذ كل غريب يقترب منها، ولم يكن يربطها أي تواصل مع العالم الخارجي، حيث مُنع تزويد سكان «بوتان» بخدمة الإنترنت، أو وسائل تواصل الإعلام المرئية والسمعية مثل التلفزيون والإذاعة، وكانت البيوت هناك خالية تماماً من أي جهاز تلفزيون أو «راديو» حتى عام 2000.
مفاتيح السعادة
تُعد «بوتان» أول دولة في العالم تعتمد مؤشر السعادة الوطنية لقياس الناتج القومي الإجمالي منها، وكان أول من صاغ عبارة «السعادة القومية الإجمالية» في عام 1971، الملك الرابع لـ«مملكة بوتان»، جيجمي سينجاي وانجتشوك، الذي أكد أن «السعادة القومية الإجمالية هي أكثر أهمية من الناتج المحلي الإجمالي». لتفكيره بمفهوم مختلف تماماً.. «إن سعادة الوطن لا تقترن بالرخاء الاقتصادي ولا حتى بالتطور والنمو الديموغرافي، بل بتقدير معنى الحياة ووجود الإنسان في هذا الكون، وعلى هذه الأرض»، تلك هي نظريته، حيث كان يؤكد أن سعادة من حوله أهم من مُجاراة البلدان بالإنجازات الاقتصادية أو الاختراعات التكنولوجية في مملكته، وساعده ذلك في الحفاظ على ترسيخ هوية شعب «مملكة بوتان»، على الرغم من قلة عددهم مقارنة بالبلدان الأخرى. تحتل «تيمفو» عاصمة «مملكة بوتان» وقلبها النابض، حيّزاً مهماً لدى سكانها، فهذه المدينة التي تقع على ارتفاع 7000 متر عن سطح الأرض، تم تأسيسها على يد الملك «جيجمي دورجي وانجشوك» عام 1961، وتضم معابد دينية تُعتبر جزءاً مهماً من تاريخ المملكة، وتقام فيها طقوس العبادة والتأمل بشكل جدي للغاية.
الوجه الحقيقي
إذا أردتم رؤية الوجه الحقيقي لـ«بوتان»، عليكم بزيارة قرية «ريشينجانج»، ذلك لأنها نموذج مصغر لـ«مملكة بوتان»، فستدهشون لطراز البيوت الخشبية الجميلة، المزخرفة برسوم ولوحات فنية ترمز إلى «فالوس» بوذا الأكبر، وهو جزء مهم في ثقافة البلد، ورمز مقدس للأهالي، فبيوتهم لا تخلو من «فالوس»، طارد الأرواح الشريرة، تيمّناً به واعتقاداً منهم بقوته الروحانية الكبيرة لحمايتهم وحماية ممتلكاتهم.
وفي هذه القرية ستستغرب طريقة العيش السلسة، وطريقة تفكير أهاليها وسكانها الذين لا تغادرهم الابتسامة حتى إن فقدوا عزيزاً، التزموا الصمت والتعبد والصلاة من أجله، لأن إيمانهم بحقيقة الموت ترافقهم يومياً، والتفكير فيه مُدرَج في كتب الديانة البوذية البوتانية، ومن أساسيات طقوس التأمل، لأنه جزء من معتقداتهم، ويعلمون جيداً أن الموت يرافقهم كظلهم تماماً، استناداً إلى الديانة البوذية التي يمارسونها بحذافيرها، والتي تختلف كثيراً عن بقية الشعوب التي تعتنق الديانة البوذية، مثل الهند والصين والنيبال، لأنهم يؤمنون بها ويعيشون على تعاليمها يومياً.
لا تنسوا زيارة كهف «تاكتشانج» (عش النمر)، الذي يعتبر أيقونة ورمزاً مهماً لمعالم الـ«بوتان» السياحية والثقافية، يقع على سفح جبل وادي «بارو»، وترتبط قصة الكهف بإحدى الأساطير التي يؤمن بها أهالي المملكة، حيث تعود أحداثها لـ«جورو رينبوشي»، مؤسس تعاليم الديانة البوذية البوتانية، إذ إنه جاء إلى المملكة على ظهر نمر طائر بجناحين كبيرين واستقر في أحد الكهوف، وكان النمر مسالماً يدافع عن صاحبه ويحميه من الأرواح الشريرة.
غرائب وطرائف
يغلب على سكان «مملكة بوتان» تقاليد وأعراف غريبة بالنسبة إلينا، لكنها عادية وجزء مهم من ثقافتهم وسعادتهم المتميزة، حيث يحق ويجوز لكل امرأة في «بوتان» الزواج بأكثر من شخصين، ويُرجعون ذلك إلى أنه جزء من سعادة الشعب، وبحكم مساواة الرجل بالمرأة، فهي صاحبة قرار شأنها شأن الرجل، ومن حقها امتلاك الأراضي وحتى توارث الأملاك مع العائلة، إلا فيما يتعلق بالعمل الشاق في قطاعات البناء، فيبقى حكراً على الرجل أو الزوج، ويرون أن مشاركة الواجبات والحقوق والمساواة سبيل من أجل الحفاظ على ثقافة المملكة وهويتها.
يُسهم تنويع حياكة الملابس في «مملكة بوتان» في إضفاء جو من السعادة والفرح على السكان كذلك، لا سيما من حيث التنوع في الألوان، خاصة فيما يتعلق باللباس النسوي الملون والجميل، الذي يشبه نوعاً ما الساري الهندي، لكنه محتشم. أما بالنسبة إلى الرجال فلديهم نوع خاص من الثياب، أشهرها تلك العباءات الفضفاضة التي يرتدونها خلال «مهرجان الرماية»، وهو نوع من الاحتفالات التي يتنافس فيها الشباب على التفنن في رماية السهام إلى أبعد مسافة ممكنة.
ثقافة السلام
عمل سكان «مملكة بوتان» الدؤوب في حقول القمح والأرز، جعلهم يشبهون لون السنابل ببشرتهم الحنطية اللامعة، يعتمدون في أكلهم على جوز الهند، والأرز والخضراوات ومنتجات الطبيعة، وعلى الرغم من توافر الأسماك في الأودية والأنهار، إلا أنهم يميلون إلى الأكل النباتي بشكل كبير، ذلك أن الديانة البوذية تحظر وتمنع منعاً باتاً قتل الحيوانات أو صيدها من أجل الأكل، وهو جزء من ثقافة السلام لديهم، لذلك يجب أن تتوخّى الحذر عند زيارتك لـ«مملكة بوتان»، وألا تُغامر وتذهب للتجول بمفردك من غير دليل أو من غير صحبة أحد سكانها، لأنها مليئة بالحيوانات المفترسة كالدببة والنمور، والفيَلة غير المروّضة، فسكانها الوحيدون القادرون على التعامل معها. كما أنهم متيقنون بأن سر سعادتهم هو ذلك السلام المتآلف بينهم وبين الحيوانات التي تسكن أدغال الغابة هناك، ويؤمنون بوجود علاقة وطيدة بين السعادة والطبيعة، التي يقدسونها ويعتبرونها مصدر رزقهم وعيشهم.