واسيني الأعرج 15 أغسطس 2018
ماذا لو قلت لكم إن الضغينة هي العتبة الأولى للجريمة؟ بعض الحب ما أدى إلى الموت أو الانتحار. وبعضه ما انتهى إلى الجنون. وبعضه الآخر ما قاد صاحبه إلى الحرق. والشاعر سحيم أوحيّه، العبد العاشق، تعرض لهذا. كان أعداؤه يغارون من جماله، وأناقته، وموهبته لدرجة التربص به. جزء من الذين أرخوا لسحيم لم يكونوا موضوعيين. كتبوا تحت وطأة الميزان الأخلاقي. لم ينتبهوا للعنصرية المستشرية. كيف لعبد أن يكون عاشقاً وفي هذا المستوى الشعري؟ كان حبشياً جميلاً، بملامح رقيقة عكس ما ادعاه بعض المؤرخين. كان معشوقاً لجماله وشجاعته تحديداً. كان سيد النشّاب والقوس. أعداؤه من قبيلته، كانوا عنصريين ألا يحقّ لسحيم ما يحق لعمر بن أبي ربيعة؟ في شعرهما تقاطع غريب. أتساءل أحياناً ألم يكن سحيم مجرد قناع لابن ربيعة؟ احتمال كبير وخطير؟ سحيم (تصغير لسحام وتعني العبد. اسمه الحقيقي حيه)، هو عبد اشتراه أول مرة، عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، والد الشاعر عمر بن أبي ربيعة. وكان عاملاً على الجند، فكتب إلى عثمان يخبره، فرد عليه هذا الأخير: لا حاجة لي إليه فاردده، فإنما حظ أهل العبد الشاعر منه، إن شبع أن يتشبب بنسائهم وإن جاع، أن يهجوهم فرده. فباعه إلى جندل، أحد بني الحسحاس. فتحلقت حوله النساء اندهاشاً بجماله وقوله. لكن العبودية والإهانة ظلت حرقته العميقة.
إن كنتُ عبداً فنفسِي حرّةٌ كَرَما أو أسودَ اللونِ، إني أبيضُ الخُلُق
ولد سحيم بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة. شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام. قُتل في فترة الخليفة عثمان، عام 35 هجرية. من الصعب على شاعر شديد الحساسية مثل سحيم أن يتمادى في إهانة نساء القبيلة التي انتمى إليها، وأن يضع نفسه على حافة موت أكيد. فقد ظل ممزقاً بين الدفاع عن وجوده كإنسان، وكيانه كشاعر، داخل منظومة قبلية لا ترحم.
وما ضرَّ أثوابي سـوادِي وإنَّني كالمسك لا يسلو عن المسكِ ذائقهُ
حظه مع نساء القبيلة وغيرها، وحسن تعامله معهن، عمق الشقاق بينه وبين شباب القبيلة. فألفوا باسمه قصائد ماجنة في نساء معروفات، لتوريطه وقتله. بعد محاولات عدة، وجد حساده المنفذ. أوصلوا إلى سيده جندل غزلاً قاله سحيم في زوجته. بحسب رواية أبي بكر العامري: تناهى إلينا من حديث سحيم، عبد بني الحسحاس، أنه جالس نسوة من بني صبير بن يربوع وكان من شأنهم إذا جلسوا للتغزل أن يتعابثوا بشق الثياب وشدة المغالبة على إبداء المحاسن. وقيل في رواية أخرى بأنه كان لسيدة بنت بكر فأعجبها فأمرته أن يتمارض، ففعل وعصب رأسه، فقالت لأبيها: اسرح أيّها الشيخ بإبلك لا تكلها إلى العبد... وراح يجتمعان.. وعندما عاد الرجل سمع شعراً لسحيم فقال لقومه: تعلمون والله أن هذا العبد قد فضحنا وأخبرهم الخبر. وأنشدهم ما قال، فقالوا: اقتله فنحن طوعك. لكن الحقيقة الثابتة هو أنه كان محباً لامرأتين شغلتا حياته العاطفية: غالية، وهي من أشراف بني تميم بن مرّ، كناها في أطول قصائده بـ«عميرة».
عميــــــــــرة ودّع أن تجــــهّـــــــــــــــــزت غاديــا كفى الشيب والإسلام للمرء هاديا
ليالي تصطاد القلوب بفاحم تراه أثيثـــــا ناعم النبت عافيا
وسمية، التي ظل عاشقاً لها حتى الموت. حدث أن اختطفت من شخص عشقها، نحو حصن بعيد. بلغ ذلك سحيماً فأخذته الغيرة. أخذ نشابه وذهب يبحث عنه، ولم يعد إلا عندما أنقذها، وراح يطلبها من أهلها لكنهم رفضوه. فطن قومها لعلاقتهما السرية. أخبرته سمية بعزم أهلها على قتله، فهرب. لكن أعداءه استدرجوه إلى مجلس شرب. فلمّا أخذ الشراب فيهم مأخذه، قال أحدهم: يا سحيم أراك تقطع وتر قوسك إن شددناك به؟ وكان له قوس لا يقدر على أن يوتّرها غيره، قال نعم، فأوثقوه بالوتر وقالوا له: اقطع. فلم يتمكّن. وثبوا عليه فضربوه حتّى كادوا يقتلونه. بكت سمية، فقال لها بيأس:
أمن سمية دمع العين مذروف لو أن ذا منك قبل اليوم معروف
المــــــــال مالــكــــــــــــــــم والعبــــــــــــد عبـــــدكــــــــم فهــــــــــل عذابك عني اليوم مصروف؟
ذُبحت سمية ببرودة لأنها بكته، بينما حفروا له حفرة ملؤوها حطباً جافاً وزيتاً، ثم وضعوه فيها مقيداً وهو في كل وعيه. ثم أشعلوا النار وأحرقوه حياً. ظلوا يتأملون صراخه وجسده وهو يتحول إلى رماد، حتى هبت رياح صحراوية حارة، رفعته نحو السماوات العالية وبددته في عرضها.