#ثقافة وفنون
كارمن العسيلي الأحد 22 أكتوبر 2023 08:00
التراث ليس مقتصراً على الماضي البعيد، وإنما يمتد أيضاً إلى الوقت القريب. ومن هذا المنطلق، جاءت مبادرة الحفاظ على التراث الثقافي الحديث، التي أطلقتها، مؤخراً، دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، وتشمل 64 معلماً وموقعاً ومبنى تراثياً حديثاً في الإمارة.. في هذه الزاوية نستعرض أهمها.
يمثل التراث الثقافي الحديث رابطاً بين الأجيال المختلفة، حيث يعكس التغيرات والتطورات التي شهدتها المجتمعات على مر الأزمان. ومن خلال الحفاظ على هذا التراث، يمكن للأجيال الجديدة فهم تجارب ومسارات الأجيال السابقة؛ فالهدف من الحفاظ على التراث هو تأكيد الهوية الثقافية والتاريخية للمجتمع، والحفاظ على التواصل بين الأجيال المختلفة.. ومن بين الأماكن التراثية الحديثة، التي تضمها إمارة أبوظبي، مبنى المجمع الثقافي.
يعد المجمّع الثقافي في أبوظبي ثمرة لرؤية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وشاهداً رئيسياً على النهضة الثقافية الإماراتية في ثمانينات القرن الماضي، ورمزاً أساسياً من رموز التطور العمراني، والحداثة العمرانية في إمارة أبوظبي، وجزءاً مهماً من تاريخها الحديث، يروي حكايتها، ويستعرض - في مساحاته - ذاكرة مدينة تفتخر بتاريخها وتراثها وعمارتها، الأمر الذي حتم إدراجه ضمن مبادرة الحفاظ على التراث الثقافي الحديث، التي أطلقتها دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي مؤخراً، تماشياً مع قانون التراث الثقافي لإمارة أبوظبي الصادر عام 2016، والذي يعطي التراث الثقافي الحديث القدر ذاته من الأهمية المعطاة للمواقع الأثرية والمباني التاريخية.
قيمة مادية.. ومعنوية
يقع مبنى المجمّع الثقافي وسط العاصمة الإماراتية أبوظبي، بين شارع النصر، وشارع الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم (شارع المطار)، وشارع الشيخ زايد الأول (إلكترا)، وشارع حمدان بن محمد في الجهة المقابلة لبرج اتصالات أبوظبي، ويضم أقدم مبنى تراثي في المدينة، المعروف بقلعة قصر الحصن.
ويتكون المبنى المستطيل الشكل من 3 أجزاء رئيسية، هي: المكتبة الوطنية، وقاعات العرض، والمسرح. وكان له امتدادان مستطيلان في الزاوية الجنوبية الشرقية، والجنوبية الغربية، يشكلان المسرح الخارجي، الذي أصبح - في ما بَعْدُ - المرسم الحر.
رفضت حكومة أبوظبي فكرة هدم مبنى المجمّع الثقافي؛ لإدراكها أهمية هذا المكان، وقيمته المادية والمعنوية، التي يحملها في الذاكرة الجماعية لسكان أبوظبي، إذ لعب «المجمّع» دوراً حيوياً في مشهد الحراك الثقافي خلال ثمانينات القرن الماضي، محتضناً المبدعين وكبار الأدباء والشعراء والفنانين من العالم العربي والعالم أجمع؛ ليشكل لوحة ثقافية فريدة، تعكس الفكر التطوري، والرؤية المستقبلية لإمارة أبوظبي. كما أن هندسته المعمارية، التي اتسمت بالحداثة، تشكل جزءاً من النسيج المعماري المحلي، الذي يعبر عن الهوية الإماراتية.
واستناداً إلى ذلك، انطلقت، عام 2010، عملية إعادة تأهيل مبنى المجمّع الثقافي، التي استغرقت قرابة الـ9 سنوات. وفي عام 2019، أعاد «المجمّع» فتح أبوابه واستقبال الجمهور، الذين عبروا عن فرحتهم بعودة هذا الصرح الذي يجسد ذاكرة المدينة، بصورة عصرية تجمع بين التراث والحداثة، وتفتخر بمعالمها المستوحاة من العمارة الإسلامية؛ ليكون منصة تنطلق منها المبادرات الثقافية والفنية العالمية. وبات «المجمّع» يضم مساحات جديدة، ومعارض فنية دائمة ومؤقتة، ومسرحاً يتسع لـ900 شخص، ومكتبة أبوظبي للأطفال، المتميزة بتصميمها المبتكر، وبيت الخط، والمرسم الحر.
وخلال تاريخه، شهد المجمع انتقال بعض أقسامه إلى مواقع أخرى. ففي عام 1996، أصبح الأرشيف الوطني مؤسسة منفصلة، انتقلت إلى مبناها الخاص. وانتقل مركز البحوث والتوثيق إلى مبنى خاص به عام 1991، كما تم تقسيم المكاتب الكبيرة فيه إلى مساحات أصغر، وتم تغيير التصاميم الداخلية؛ لاستيعاب البرامج المتنامية للمجمع.
بساطة التصميم
يتميز مبنى المجمّع الثقافي ببساطة تصميمه، وجدرانه الخرسانية التي تبدو عادية، إذ حرص المهندس المعماري العراقي المولد، هشام أشكوري، الذي صمم مبنى المجمع الثقافي في سبعينات القرن الماضي، على استخدام الأسقف المسطحة، والواجهات البسيطة، والأشكال المكعبة، والزوايا القائمة، كما قلل من استخدام النوافذ، وأوجد مساحة داخل المبنى، بدلاً من أن يترك المبنى يحتل المساحة كاملة؛ إيماناً منه بضرورة التركيز على التفعيل الوظيفي للمبنى، بدلاً من الجماليات.
ومن وحي العمارة الإسلامية، حملت الأقواس والأعمدة والحدائق والساحات في «المجمّع» زخرفات هندسية، فيما توشحت أروقة «المجمّع» بالطوب المصقول، ما أحدث تناقضاً جمالياً مع بساطة الجدران الخرسانية.
ومن معالم «المجمّع» التراثية: الأرضيات والأقواس، التي تم تزيينها ببلاط السيراميك، الذي شكل على هيئة مربعات ونجوم مثمنة، فيما تمت تغطية الجدران بالسيراميك الملون بالأزرق والأصفر والأبيض.
وبعد عملية التأهيل، منح المبنى شكلاً أكثر حداثة، مع الحفاظ على معالمه الأساسية، من ناحية بساطة التصميم.
مفهوم حداثي
تعد ساحات الفناء عنصراً أساسياً في تصميم التنظيم المكاني للمجمع الثقافي، إذ تسمح بتدفق المساحات، وتردد صدى المفهوم الحداثي «الفضاء الشامل». ويوجد نوعان مختلفان من الأفنية المرئية في مبنى المجمع، هما: فناء مفتوح، وفناء مغلق، في قلب المبنى. ويعد الفناء الخارجي للمجمع مســاحة وسيطة بين البيئة الحضرية، والقاعـة الرئيسية في قلبه، وعلى الرغم من هدم جزء من الفناء الخارجي عام 2011، فإن ما تبقى من ليوان الفناء يمتد نحو المدينة؛ لاحتضان المجتمع بالمجمع الثقافي، ودعوته إليه.
وتماماً كما الفناء الموجود في العمارة الإسـلامية، فإن الفناء الخارجي للمجمع، هـو المكان الذي تحدث فيه التفاعلات الاجتماعية والمجتمعية عبر البرامج والأنشطة، وهي تجربة تنتهي عادة في قاعة المعرض الرئيسية بالفناء المغلق (الصحن) في قلب المبنى.
ويتدفق الهواء إلى الأروقة، التي يتكون منها الفناء الخارجي، الذي يعمل - بدَوْره - كخزان للهواء البارد. ويوفر كلٌّ من التلاعب بين الضوء والظل بين الفناء المفتوح والأروقة المظللة، والتباين بين الأسطح الخرسانية اللامعة والبلاط الملون البارد، ووجود النافورة الهادئة، تجربة انتقالية عند دخول المبنى.
ويعتبر الماء عنصراً مكملاً للتصميم المعماري لمبنى المجمع، والذي هو أيضاً سمة مشتركة من سمات التصميم الإسلامي. إذ تعد النوافير جزءاً مهماً من مدخل الفناء، فحركة المياه مثل الموسيقى التي تخفف ضوضاء المدينة، والمرآة التي تعكس العمارة المحيطة.
قصة «المجمّع»
وشهد المبنى، في الفترة الممتدة من 24 أكتوبر 2021 وحتى 15 فبراير 2022، تنظيم معرض أرشيفي تفاعلي حمل عنوان «المجمّع»، استعرض قصة المجمّع الثقافي بدءاً من التصور الذي وضعه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وتأسيسه عام 1973، إلى إغلاقه نحو تسع سنوات، ثم إعادة افتتاحه عام 2019. كما روى المعرض ذكريات المبنى، ضمن مجموعة مختارة من القطع والصور ومقاطع الفيديو، من خلال وسائط متعددة، تم تنسيقها لتسلط الضوء على أهمية المجمّع مركزاً ثقافياً في المنطقة، والتأثير الاجتماعي له في سكان أبوظبي. وشارك المعرض التجارب الثقافية، التي كانت متاحة للمجتمع بأكمله من خلال المجمّع، مثل: المكتبة الوطنية، والمسرح، والفنون الجميلة، والفعاليات العامة.
والمجمّع مصطلح معروف على نطاق واسع، يستخدمه سكان أبوظبي كثيراً؛ للإشارة إلى المجمّع الثقافي. وهو مصطلح شامل ينم عن المحبة والانتماء، ويظهر كيف يجمع جوانب الثقافة كافة في مكان واحد.