#تحقيقات وحوارات
ياسمين العطار الإثنين 1 يناير 08:00
فرح القيسيه امرأة إماراتية تنبض بالحيوية والطاقة الإيجابية، وعندما ترى ابتسامتها العريضة تشحن قلبك بالأمل والقوة، فهذا انعكاس حقيقي لما بداخلها من فيض واسع من المشاعر والتجارب، التي عاشتها خلال حياتها ورحلتها المشوقة مع «التلعثم»، الذي رأت فيه نقطة قوة ولغة خاصة للتحدث، تنطق بالحياة والإرادة، ليذيع صيتها حول العالم بمبادرة «مجموعة المتلعثمين في الإمارات»، التي منحت المتلعثمين فرصة الفضفضة في مكان آمن، متقبل ومتفهم، حتى جذبت قصتها المخرجين، وحفزت إبداعهم لإنتاج فيلم وثائقي قصير، يسرد قصصاً حقيقية لأشخاص متلعثمين قدموا نماذج ملهمة بالمجتمع الإماراتي، وجاب مهرجانات عالمية، مثل: «كان» بفرنسا، و«مالمو» بالسويد.. في لقاء مع فرح، أجريناه على هامش جلسة تصوير خاصة، نطلع على قصتها مع «التلعثم»، وتفاصيل كثيرة أخرى، وتالياً نص الحوار:
متى بدأت قصتك مع التلعثم؟
أخبرني والداي بأن اضطراب الكلام بدأ لديَّ من عمر 3 سنوات، لكنني لا أتذكر شيئاً، ولم أشعر بهذا الاضطراب. وقد بدأت حكايتي الحقيقية مع التلعثم بعمر 12 عاماً، عندما تعرضت لموقف قاسٍ بالمدرسة؛ حينما طلبت المعلمة من الطالبات بالصف الوقوف؛ إذا أردن المشاركة في قراءة نص مكتوب. هنا، بادرت بالمشاركة، واختارتني المعلمة، وخلال قراءتي بدأت التلعثم الذي يعد أمراً طبيعياً في طريقة كلامي. عقب وقت قصير، طلبت مني المعلمة التوقف عن القراءة، وقالت: «لما تعرفي تتكلمي ارفعي إيدك للمشاركة بالقراءة»، شعرت حينها بالخجل الشديد والإحراج، وأصبحت بسبب هذا الموقف انطوائية، وأحاول قدر الإمكان عدم الوجود في التجمعات، إلا إذا كان عددها كبيراً، حيث يمكنني تجنب المشاركة في الحديث.
سلاسة الكلام
من ساعدك في تلك المرحلة؟
قدم لي أهلي الدعم، وساعدوني كثيراً، سواء من الوالد أو الوالدة أو إخوتي الأربعة، فدائماً كانوا يخبرونني بأن لديَّ صعوبة بالنطق، لكن لا توجد لديَّ صعوبة بالتفكير، ولا يوجد أي عائق للتطور والإنجاز، ما كان يشجعني، ويحفزني للتفوق، ومواصلة طريق النجاح. وهنا، أؤكد أهمية دور المنزل في تكوين شخصية الأبناء، إذ من الضروري إتاحة الفرصة الآمنة للأطفال؛ لمشاركة مشاعرهم السلبية والإيجابية في أجواء مفعمة بالتفهم والتقبل والاحتضان والمحبة، هذا الذي يصنع طفلاً متزناً نفسياً.
ما الذي سبب لكِ التلعثم؟
التلعثم هو اضطراب في سلاسة الكلام، وتظهر أكثر حالات التلعثم في مرحلة النمو، وتبلغ نسبة المتلعثمين من الأطفال حول العالم 5%، والكبار 1%، ما قد يكون سبباً في عدم معرفة الناس بطبيعة هذا الاضطراب، وللأسف هناك اعتقادات سائدة عن المتلعثمين، غير حقيقية على الإطلاق.
من خلال تجربتك مع هذا الاضطراب.. ما أبرز المعتقدات الخاطئة التي صادفتك؟
من ضمن المعتقدات الخاطئة التي واجهتها، أن البعض يعتقدون أن التلعثم يحدث نتيجة للخجل، لكن الأمر ليست له علاقة بذلك، وإنما أحياناً تزيد حالة التلعثم نتيجة عدم الثقة بالنفس، التي تعد من الآثار الجانبية للتنمر الذي يقع على المتلعثمين ممن حولهم، خاصة في مرحلة المدرسة.
كيف واجهت هذه الأفكار؟
عندما كنت صغيرة لم تكن لديَّ القدرة على المواجهة، بل كنت أكتفي بالانعزال، وكان أخي الأصغر الذي كان يشاركني التلعثم، أكبر داعم لي في هذه المرحلة، وأصبح حينها ملاذي الآمن، الذي يشاركني الشعور والقصص والتحديات نفسها، فلم أكن أشعر بأنني وحدي أتلعثم في الكلام بهذا العالم.
نقطة تحول
ماذا فعلتِ لتحويل حالتكِ الخاصة إلى نقطة قوة؟
المرحلة الجامعية كانت نقطة التحول في حياتي، فعندما تخرجت في «الثانوية العامة»، كنت في حيرة من أمري لاختيار التخصص الجامعي، حيث نصحني الأهل والأقارب بالالتحاق بجامعة زايد، وقررت حينها القيام بتجربة، وضعتها لإرشادي لأكمل أو أنسحب وأغير خطتي. عندما بدأت الدراسة، ومع أول عرض أقدمه أمام الكادر التعليمي والطلاب، بدأت حديثي بالتعريف عن نفسي، فقلت: «معكم فرح القيسيه، وأنا شخص متلعثم، رجاءً أعطوني وقتي في هذا العرض»، وهنا كانت أولى خطوات كسر الحاجز بداخلي، ومواجهة العالم بطبيعتي، ودعوتهم إلى تقبلي مثل ما أنا.
كيف كانت ردة فعل المحيطين بك حينها؟
كانت إيجابية جداً، وأزالت كثيراً من الاستفسارات التي كان من الممكن أن توجه إليَّ بالكلام أو بالنظرات، كما أظهرت قوتي وتقبلي هذا الاضطراب، الأمر الذي ساهم في تفهم وتقبل من حولي لطريقة الكلام الخاصة بي، لهذا مرت هذه المرحلة بسلاسة ويسر وتفاعل كبير مع محيطي، ما جعل شخصيتي أقوى، وخفض طاقة التلعثم بداخلي. في هذه الفترة، بدأ يراودني شعور بالرغبة في إحداث تغيير على نطاق واسع، لكنني لم أكن أعرف من أين أبدأ المشوار. كان بداخلي تساؤل مستمر: لماذا لم أصادف متلعثمين بحياتي؟ إذ يستحيل أن أكون أنا وأخي فقط لدينا اضطراب الكلام، لابد أن يكون هناك آخرون، ولكن أين هم؟.. ظلت هذه الاستفسارات تجول بخاطري على مدار سنوات الجامعة.
متى وجدتِ إجابات لهذه التساؤلات؟
عندما تخرجت، وكنت في طور البحث عن وظيفة، في هذا الوقت قابلت شخصاً متلعثماً، وكنت في غاية السعادة، لأنني أخيراً وجدت شخصاً متلعثماً غيري أنا وأخي. بدأنا الحديث عن قصتنا مع اضطراب الكلام، وما واجهناه من معاناة داخلية وخارجية، وما عانيناه جراء شعورنا بالخجل والتوتر. من هنا جاءت فكرة إطلاق مبادرة «مجموعة المتلعثمين في الإمارات»، بهدف منح المتلعثمين فرصة الفضفضة في مكان آمن، وكان ذلك عام 2013.
كيف بدأت تنفيذ هذه المبادرة؟
فكرت في عمل جلسة شهرية بمكان عام، ووجهت دعوة عامة على منصة بمواقع التواصل الاجتماعي، للمشاركة، سواء للمتلعثمين أو أهلهم أو أصدقائهم. لكن للأسف لم يستجب أحد للدعوة، ولم يحضر أي شخص لمدة 8 شهور. هنا، بدأت أفكر وأحلل الأسباب، وتساءلت: لو تم توجيه هذه الدعوة إليَّ عندما كان عمري 16 عاماً، حينما كانت تسيطر عليَّ مشاعر الخوف والعزلة، فهل كنت سأقبل الوجود وسط هذا الجمع من الأهل والأصدقاء للأشخاص المتلعثمين؟.. كانت الإجابة: «بالطبع لا»؛ لذلك أجريت تعديلاً على الدعوة، فوجهتها إلى الأشخاص المتلعثمين فقط، إذ إن اقتصار الوجود على المعنيين بالموضوع نفسه يمثل عاملاً كبيراً في الدعم، وتلاشي الإحراج والخوف، والشعور بالراحة.
لهجة أخرى
متى بدأت المبادرة في الانتشار، وإحداث صدى؟
في الحقيقة كان للإعلام دور مهم في التعريف بالمبادرة، وذلك بعدما تم نشر تغطية عن الفكرة وأهدافها. بعدها توسعنا بشكل أكبر، وأصبحنا ننظم عدداً أكبر من الجلسات التي نقيمها في جميع إمارات الدولة، للوصول إلى أكبر عدد من المتلعثمين في الدولة، ومع الوقت زاد العدد، وكونا «جروب المتلعثمين في الإمارات».
كيف تمكنت من تنظيم واستضافة أول فعالية في المنطقة العربية، تقام بمناسبة اليوم العالمي للتوعية بـ«التأتأة»؟
كانت خطوة مهمة في مسيرتي، فقد تمنيت تنفيذها منذ إطلاق المبادرة، لكنني تمكنت عام 2015 من تحقيقها، بفضل الرعاية الكريمة من معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح والتعايش، الذي منحنا دفعة معنوية كبيرة بأهمية دورنا وصوتنا بالمجتمع، وتبنينا حينها شعار «التلعثم مجرد لهجة أخرى». بعدها، واصلنا تنظيم فعاليات بهذه المناسبة سنوياً، وفي عام 2023 احتفينا بالفعالية الثامنة، التي تأتي لمواكبة الجهود الدولية للتوعية بـ«التأتأة».
ماذا عن الفيلم الوثائقي، الذي تناول موضوع التلعثم؟
عام 2016، تم التواصل والتعاون مع المخرجتين: خديجة القدسي، وسامية علي، لإطلاق فيلم وثائقي يتناول قصص المتلعثمين، من خلال مبادرة «مجموعة المتلعثمين في الإمارات»، التي مثلت فرصة رائعة لإيصال صوت المتلعثمين إلى العالم، وتم عرض الفيلم بمهرجان كان السينمائي بفرنسا، ومهرجان مالمو السينمائي بالسويد، ما ساعد على التوعية باضطراب الكلام، والتعريف به، وإتاحة الفرصة لمعرفة مشاعر وإمكانات وقدرات المتلعثمين، من خلال قصص حقيقية، قدمت نماذج ملهمة في المجتمع. كما قدم هذا الفيلم الوثائقي المميز تجربة نسائية جديرة بالتقدير لإمكانات المرأة، وتميزها، وخبراتها محل الثقة.
ما أكبر المخاوف، التي يمكن أن تسيطر على الأشخاص المتلعثمين؟
غالباً، يسيطر على المتلعثمين الشعور بالخوف والقلق والتوتر في العديد من الأمور، منها: التوظيف، والزواج، لشعورهم بعدم تقبل وتفهم المجتمع لطريقتهم الخاصة بالكلام.
هل انتابك الشعور بهذه المخاوف؟
اختلف الموضوع لديَّ شيئاً ما؛ لأنني منذ أن بدأت المرحلة الجامعية حجَّمت هذه المخاوف بداخلي، ولم أعد أسمح لهذه الأفكار بأن تسيطر على مشاعري. وبالفعل، عقب التخرج أقدمت على المشاركة في معرض توظيف، وكنت أخوض الاختبارات بكل ثقة، وقد شاركت حينها ببرنامج تدريبي، واجتزته بنجاح، بعدها تم توظيفي.
مسؤوليات جديدة
خلال عملك.. هل واجهتك تحديات، في ما يخص طريقتك بالكلام؟
نعم، بالطبع واجهت ذلك بصورة أو بأخرى، لكن ذلك كان مختلفاً عما واجهته في الصغر، إذ لم يكن ما واجهته خلال عملي تنمراً مثلما كنت أواجه بمرحلة المدرسة، فما واجهته خلال عملي كان تحدياً من نوع آخر أكثر رقياً وتفهماً، وكان الأمر يتعلق بمسألة تقديم جلسات عرض المشاريع، لكنني كنت أصر على قيادة العرض والتحدث بكل ثقة، إذ كنت أريد أن يرى الجميع قوتنا وقدرتنا على العمل والإنجاز بكل كفاءة.
كيف تعاملتِ مع نوع المخاوف الآخر، الذي تحدثتِ عنه؟
بالنسبة لموضوع الزواج، لم تكن لديَّ مخاوف كذلك، لكنني واجهت حينها أفكار المجتمع الغريبة عن المتلعثمين، وذلك من خلال الأشخاص المتقدمين لخطبتي، سواء عن طريق الأهل أو الأصدقاء، إذ كانوا يظهرون علامات الخوف والتحفظ؛ عندما يعلمون أن لديَّ اضطراباً في الكلام، وبعضهم كان لديهم خوف من انتقال طريقة الكلام هذه إلى الأطفال، إذ يظن الجميع أن التلعثم مُعدٍ، والبعض الآخر كان لديهم خوف من عامل الوراثة، وهذا الأمر صحيح، لكن ليس بالصورة التي يظنها الناس.
هل كانت لديك معايير معينة عند اختيار شريك حياتك؟
كنت واضحة منذ البداية مع الشخص الذي تقدم لخطبتي، في ما يخص موضوع التلعثم، وأخبرته باحتمالية أن ينتقل «الجين» وراثياً؛ إذا رزقنا بأطفال، خاصة الذكور، فنسبة إصابتهم أعلى 4 مرات، مقارنة بالإناث، فتفهم هذا الأمر وتقبله.
هل غيرت الأمومة حياتكِ؟
بالطبع تغيرت كثيراً، فالأمومة شعور جديد ومسؤوليات جديدة، لكنها ممتعة، وقد ساعدتني رحلتي مع التلعثم على تفهم طريقة تعبير أولادي عند بداية نطقهم الكلام، وآلية التعامل معهم، حيث يجب عدم مقاطعتهم، وإعطاؤهم وقتهم في الحديث، وعدم متابعة حديثهم عوضاً عنهم، فكل هذا يؤثر في ثقتهم بأنفسهم.
كيف تمكنتِ من التوفيق بين مبادرتك وعائلتك وعملك؟
لم يكن الأمر هيناً على الإطلاق، فقد كنت أعافر لإعطاء كل جانب من حياتي حقه على أكمل وجه. وفي النهاية، قررت التفرغ للعائلة، ولمشاريعي المرتبطة بالتلعثم واضطرابات النطق واللغة.
ما طبيعة هذا المشروع؟
تعاقدت مع شركة برتغالية، متخصصة في علاج النطق بشكل عام، والتلعثم بشكل خاص، وأطلقنا منصة عبر الإنترنت؛ لتوفير جلسات علاج نطق افتراضية، وتوسعت الشراكة إلى تقديم جلسات علاج نطق في أبوظبي عن طرق مركز «سبيش كير»، وبطبيعة الحال يحتاج تنفيذ هذا المشروع إلى الكثير من الوقت والجهد؛ لتحقيق النجاح المنشود.
«وسام أبوظبي»
ما أسعد اللحظات، التي مرت بحياتك؟
عندما تم اختياري ضمن 9 شخصيات متميزة، قدمت أعمالاً جليلة إلى مجتمع أبوظبي، وحصلت إثرها على جائزة «وسام أبوظبي»، ضمن جائزة أبوظبي 2017، التي تمثل أرفع تكريم مدني في الإمارات للشخصيات التي كانت لها اهتمامات عادت بالنفع على المجتمع. شعرت حينها بالسعادة تملأ قلبي لحصولي على هذه الجائزة، فهي أكبر وسام أفتخر به في حياتي، فقد مثلت الجائزة بداية لطريق النجاح والتميز وإنجاز المزيد من الجهود التي تركز على موضوع التلعثم. وفي أغسطس 2023، حصلت على جائزة من مركز الشباب العربي، ضمن 21 شاباً عربياً، قدموا جهوداً عادت بالنفع على مجتمعاتهم، وقد تشرفت بتسلم الجائزة من معالي شما بنت سهيل المزروعي، وزيرة تنمية المجتمع.
هل هناك علاج للتلعثم؟
ليس هناك علاج جذري للتلعثم، لكن يمكننا - بالتعاون مع أخصائيي النطق - تحسين لحظات “التأتأة” لدى الشخص بشكل كبير.
ما نصائحك لتعايش الكبار مع اضطراب الكلام؟
بداية، يجب أن ندرك أن التلعثم جزء صغير منا، وليس كل ما نحن عليه، وإذا حاولنا إخفاءه فسيكبر ويظهر بشكل أكبر، لذلك يجب أن نعمل على تقبل أنفسنا كما نحن، حتى نستطيع الإقدام والتفاعل مع طرق العلاج، أو التعايش مع التلعثم.
ماذا تقولين لكل شابة تعاني وضعاً خاصاً، وترفض التقدم أو تغيير حياتها؛ خوفاً من نظرة المجتمع وعدم تقبله لها؟
منظورنا إلى الأشياء هو الذي يحدد مشاعرنا. لذلك، علينا أن نوسع منظورنا، ونرى الحكمة في اختلافنا؛ حينها سنرى بوضوح مصدر قوتنا، وسبيل نجاحنا. ومن هذا المنطلق، أنصح كل إنسان بأن يكون كما هو، ويبتعد عن أي محاولات تجعله نسخة من المجموعة؛ لمجرد خوفه من الاختلاف، فهذا من أبرز الأشياء التي تطمث الشخصية والهوية. ومن خلال تجربتي، أحب أن أؤكد أن الموقف الذي تعرضت له عندما كنت في عمر 12 عاماً، كان بمثابة البذرة التي صنعت مني ما أنا عليه الآن؛ لذلك لم أعد أحزن عندما أتذكره، فهو يُشعرني بالفخر والامتنان.