#تغذية وريجيم
لاما عزت 17 أكتوبر 2024
«لينا» مهندسة مدنية شابة، كانت تعيش حياة مليئة بالطموحات المهنية والشخصية، وكانت دائمًا ترى في والدها الداعم الأول لها. قبل سنتين، تعرضت «لينا» لصدمة كبيرة؛ عندما فقدت والدها فجأة. هذا الحدث قلب حياتها رأسًا على عقب، وترك أثرًا عميقًا في نفسها. فلم يكن الحزن الذي عاشته مجرد مشاعر عابرة، بل امتد تأثيره ليصل إلى صحتها البدنية. بدأت «لينا» تعاني مشكلات صحية غير متوقعة، مثل: اختلال الهرمونات، واضطرابات وظائف القلب، أظهرت ارتباطاً وثيقاً بين حالتها النفسية، وصحتها الجسدية؛ فقصتها تجسيد حي لكيفية تأثير الصدمات النفسية في الجسد، ومدى أهمية العناية بالصحة النفسية والبدنية معاً.
تعتبر الأمراض النفسية تحدياً يثقل كاهل المرضى، لما لها من أثر عميق في جودة حياتهم، في ضوء الوصمة الاجتماعية التي تصاحبها، وتؤدي إلى عزوف العديد منهم عن استشارة الأطباء المتخصصين في الطب النفسي؛ لإيجاد علاج مناسب لحالتهم. إلا أن المجتمع الطبي يتفق على الضرورة الحيوية؛ لتلقي العلاج النفسي عند الإصابة بأيٍّ من الاضطرابات والمشاكل النفسية، ليس لتعزيز رفاه المريض على المستوى النفسي فحسب، بل لتأثير العديد من الأمراض النفسية في الصحة البدنية، والعديد من الأعضاء الحيوية في الجسم.. حول هذا الموضوع، تحدثنا إلى الدكتورة رشا عباس، استشاري الطب النفسي في مركز هيلث بلاس للسكري والغدد الصماء، والدكتور حبيب عبد الله، اختصاصي علم النفس السريري للأطفال في مبادلة للرعاية الصحية دبي، ومستشفى دانة الإمارات للنساء والأطفال.
عندما نتحدث عن الصحة النفسية والبدنية، فإننا غالبًا نفكر فيهما كأمرين منفصلين. لكن الحقيقة، كما توضح لنا الدكتورة رشا عباس، أن هناك ارتباطًا وثيقًا بينهما؛ فالصحة النفسية الجيدة لها تأثير مباشر في العافية البدنية، والعكس صحيح. فعلى سبيل المثال، يؤدي التوتر الشديد إلى اضطرابات في وظائف الجسم، مثل: اختلال الهرمونات، ووظائف القلب. وقد يكون الاكتئاب مرتبطًا بأمراض مزمنة، مثل: السكري، والربو، وأمراض القلب، والأوعية الدموية.
بين الصحة النفسية والبدنية
أوضحت الدكتورة رشا عباس أن هناك اعتقاداً شائعاً بأن الصحة النفسية والبدنية أمران منفصلان، وذلك غير صحيح، فهما ترتبطان ارتباطاً وثيقاً، فالتمتع بصحة نفسية جيدة له دور رئيسي في تعزيز العافية البدنية، في حين يؤثر تدهور الحالة النفسية سلباً في مختلف أعضاء الجسم. وما من دليل أوضح من تأثير التوتر الكبير في العديد من وظائف الجسم الحيوية، مثل: اختلال الهرمونات، ووظائف القلب. كما يرتبط الاكتئاب، مثلاً، بالعديد من الأمراض المزمنة، بما في ذلك: السكري، والربو، والسرطان، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والتهاب المفاصل. وتؤثر الاضطرابات النفسية في قدرة الشخص على التعامل مع الأمراض المزمنة، فيكون معدل الوفيات بسبب السرطان وأمراض القلب أعلى بين المصابين بالاكتئاب، أو غيره من حالات الصحة النفسية.
وأكدت أن اضطراب الحالة النفسية يقود إلى مشاكل في النوم، مثل: الأرق أو انقطاع التنفس، تسبب تدهوراً على مختلف المستويات الصحية. ناهيك عن تحفيز الاكتئاب والقلق لممارسة عادات سيئة كالتدخين، أو إهمال النشاطات الصحية، مثل: ترك الرياضة، وتناول الوجبات السريعة، والإكثار من الطعام لدى بعض الفئات، وهي ممارسات خاطئة، تؤثر بشكل كبير في الصحة البدنية، وتسبب العديد من الأمراض، أبرزها السمنة، المعروفة بعمق تأثيرها في الصحة عموماً.
التوتر.. والضغوط النفسية
يقول الدكتور حبيب عبد الله: إن إدارة الضغط والتوتر مهارة، يتعين على الجميع اكتسابها اليوم، بسبب طبيعة الأعمال، وتسارع وتيرة الحياة، لأن ازدياد التوتر، وارتفاع وتيرة الضغوط، يعرضان الشخص للعديد من المشاكل الصحية بدنياً ونفسياً، ويضعانه أمام مخاطر الإصابة بالاكتئاب، وتدهور الحالة المزاجية، ويسببان ضغوطاً إضافية على صحة القلب، والأوعية الدموية، ويدفعانه إلى ممارسة عادات سيئة كالتدخين. فاجتماع هذه العوامل يزيد فرص حدوث النوبات القلبية، والسكتات الدماغية، والسرطان، وغيرها. ويتعرض الجهاز العصبي، أيضاً، لإرهاق شديد مع تراكم التوتر والضغوط بمرور الزمن. وعندما يتعرض الجسم للتوتر، تتوتر العضلات، وهذا رد فعل انعكاسي للتوتر، وطريقة استجابة طبيعية للجسم، ويمكن أن يؤدي التوتر والعواطف القوية إلى ظهور أعراض تنفسية، مثل: ضيق التنفس، والتنفس السريع، حيث يضيق مجرى الهواء بين الأنف والرئتين. وبالنسبة للذين لا يعانون أمراض الجهاز التنفسي، فلا تعد هذه مشكلة بشكل عام، حيث يمكن للجسم تحمل الجهد الإضافي للتنفس بشكل مريح. لكن الضغوط النفسية يمكن أن تؤدي إلى تفاقم مشاكل التنفس لدى الذين يعانون أمراض الجهاز التنفسي الموجودة مسبقاً، مثل: الربو، والانسداد الرئوي المزمن.
تأثيرات التوتر الهرمونية
وأضاف الدكتور حبيب عبد الله: يمكن أن يساهم التوتر المزمن، أو المستمر لفترة طويلة من الزمن، في حدوث مشاكل طويلة الأمد بالقلب والأوعية الدموية، فقد يؤدي الارتفاع المستمر في معدل ضربات القلب، وارتفاع مستويات هرمونات التوتر وضغط الدم، إلى إلحاق الضرر بالجسم. ومن المحتمل أن يؤدي هذا الاستمرار في التعرض للتوتر إلى زيادة خطر الإصابة بارتفاع ضغط الدم، أو النوبات القلبية، أو السكتات الدماغية، وتعتبر الغدد الصماء من الأعضاء الحيوية، التي تستجيب للتوتر والقلق أيضاً، فعندما يدرك شخص ما أن الموقف يشكل تحدياً أو تهديداً، أو لا يمكن السيطرة عليه، يرسل الدماغ إشارات للاستجابة عبر الهرمونات. ويؤدي هذا - في النهاية ومع استمراره - إلى زيادة إنتاج الهرمونات «الستيرويدية»، التي تسمى «الجلوكوكورتيكويدات»، وتشمل «الكورتيزول»، الذي يشار إليه، غالباً، باسم «هرمون التوتر».
«متلازمة القلب المنكسر»
من منا لم يسمع بإصابة شخص بمرض قلبي ما، أو حتى وفاته، نتيجة تعرضه لفقدان شخص ما في حياته، أو لموقف كبير، ما ترك أثراً نفسياً عميقاً به؟.. تقول الدكتورة رشا: «هذا ما يسمى (متلازمة القلب المنكسر)، وهي حالة يشعر فيها المصابون بألم مفاجئ في الصدر، أو أنهم على وشك الإصابة بنوبة قلبية. وتؤكد هذه الحالة العلاقة الوثيقة بين الحالة النفسية والصحة البدنية، وأهمية اكتساب مهارات إدارة التوتر والضغوط؛ لحماية صحتنا البدنية والنفسية معاً».
التعامل مع التأثيرات النفسية
يشدد الدكتور حبيب عبد الله على أهمية عدم الخوف من الوصمة الاجتماعية، المرتبطة بمراجعة الطبيب النفسي، واستشارته عند الحاجة، لاسيما أن تشخيص المشكلة مبكراً، وبدء علاجها، يخففان كثيراً من المضاعفات التي قد تكون أسوأ من المتوقع، خاصة على مستوى الصحة البدنية. ويمكن التعامل مع التوتر، وضغوط الحياة اليومية بممارسات بسيطة، مثل: الرياضة، واليوغا، والتأمل؛ لتعزيز الإيجابية، وتخفيف الضغوط. في حين قد يتم اللجوء إلى العلاجات الدوائية عند الحاجة، وبالتشاور مع الطبيب المختص. ويعتبر العلاج السلوكي المعرفي من الخيارات العلاجية الفعالة، إذ يستهدف أنماط التفكير والسلوك السلبية. وقد ثبتت فاعليته في علاج مجموعة من الحالات، مثل: الاكتئاب، والقلق، كما أنه يساعد في علاج بعض المشكلات الصحية الجسدية كالألم المزمن.
التوتر.. والشيخوخة
هل الذين يعانون التوتر المزمن يتقدمون في العمر بسرعة أكبر؟.. توضح الدكتورة رشا أن الذين يتعرضون للتوتر المزمن يتقدمون في العمر بسرعة، حيث يسرع التوتر انقسام «التيلوميرات»، وفقدان طولها، ضمن الخلايا، ما يسرع ظهور علامات التقدم في السن. ولابد من الإشارة، هنا، إلى أن الالتهابات سمة أخرى ترتبط بالتوتر وتدهور الحالة النفسية، وتساهم أيضاً في تدهور وظائف أعضاء الجسم، والتعرض للأمراض بمختلف أنواعها. فبالإضافة إلى الشيخوخة نفسها، يمكن أن يساهم الالتهاب في تطور العديد من الأمراض، بما في ذلك: تصلب الشرايين، والسكري، وارتفاع ضغط الدم. كما أن الإجهاد التأكسدي إحدى الآليات الرئيسية المرتبطة بالإجهاد، ويحدث بسبب الإفراط في إنتاج مركبات الأكسجين التفاعلية، التي يمكن أن تُلحق الضرر بالأنسجة المختلفة. والمصدر الرئيسي لمركبات الأكسجين التفاعلية هو «الميتوكوندريا»، إذ يمكن أن يؤدي تدهور حالة «الميتوكوندريا» عن طريق الطفرات إلى تفاقمها، وعندها تزداد التغيرات الالتهابية الخاصة بالشيخوخة.
زيادة الوعي.. ودور الأطباء
أكد الدكتور حبيب عبد الله ضرورة تعزيز وعي أفراد المجتمع بأهمية إدارة الاضطرابات والأمراض النفسية بكفاءة. ويتعين، في هذا الإطار، على مؤسسات ومنشآت الرعاية الصحية لعب دور إيجابي بناء بتنظيم البرامج التوعوية، التي تستهدف إزالة الوصمة المرتبطة بهذه الأمراض، لاسيما أن إيجاد الشخص، المصاب باضطراب نفسي ما، بيئة اجتماعية متفهمة وداعمة، يساعده في تخطي تحديات مرضه، وتعزيز عافيته النفسية والبدنية عموماً. واتفقت معه الدكتورة رشا بالتأكيد على أن الأطباء النفسيين يلعبون دوراً حيوياً في مساعدة المرضى على تخطي التحديات، التي يلقيها مرضهم على صحتهم البدنية والنفسية، خاصة في ضوء المخاطر التي تسببها المشاكل النفسية على الصحة البدنية على المدى البعيد، في حال إهمال علاجها. وبالتالي لابد من تعزيز البرامج والمبادرات التوعوية، التي تشجع الأفراد على تلقي الاستشارة الطبية المناسبة؛ لعيش حياة أكثر صحةً، وسعادةً، وعافيةً.