#مقالات رأي
د. نرمين نحمدالله 1 يوليو 2023
ممَّا وعى عقلي من «حكايات الصبا» حكاية تلك الغجرية «ست الحسن»، التي هام بها عشقاً أمير اسمه «حسن».. قالوا إنه ترك لأجلها حياة القصور والنعيم، وظل يتتبع الخيام التي يضربها الغجر المرتحلون، بعدما رفض أهلها أن يزوجوه إياها. كانت «ست الحسن» تعرف أنه يتتبعها، وتشفق على حاله؛ فكانت تترك له في كل مرة «فطيرة ساخنة»، تغلفها وتغطيها وتدفنها في الأرض، وتترك له فوقها علامةً ما كغطاء رأس أو منديل؛ فيعرف هو العلامة، وينبش الأرض.. يأكل الفطيرة، ويكمل سعيه خلفها، متتبعاً ما تتركه له من علامات!
لا أذكر كيف تطورت قصة «الشاطر القديم»! لعلهما التقيا معاً في حياتهما، أو بعد موتهما.. لعلهما دفنا معاً، ونبتت فوق قبريهما شجرتان متعانقتان، لعلّ نجماً في السماء بقي يحتفظ باسميهما، ويحكي قصتهما لصخور البحر في تلك الليالي التي يغيب فيها القمر.. لكن ما بقي راسخاً في عقلي من تلك الحكاية (من يستحق «فطيرة ست الحسن»؟!).
في كل مرة كان يجد قلبي جواباً واحداً، هو: من تشبث بنا، رغم قسوة الظروف، وأجاد تتبع العلامات التي تركناها خلفنا.. قرأها بقلبه قبل عينيه!
وإن لم أقل: «اعثر عليَّ»، سمعها: «جدني كي لا نتوه معاً».. وإن لم أمد له كفاً مرتجفاً؛ غمرني فيض عناقه.. وإن خنق الصمت صراخي؛ هتف بملء قلبه: «لبيك!».
من يستحق «فطيرة ست الحسن»؟!.. هؤلاء الذين - وإن وجدوا لنا أربعين شبيهاً - ميزت قلوبهم شفرة أرواحنا الخاصة، بأكوادها السرية التي لا تنطبق على سوانا؛ فأشارت إلينا دوماً سبابتهم أينما كنا.. وكيفما كنا.
هؤلاء الذين شهدوا انطفاءة سراجنا، فلم يروعهم الظلام، بل بقوا جوارنا، يبحثون عن زيت قناديلنا المفقود، كأنما نبتت لقلوبهم أيادٍ لا تنقطع ابتهالاتها للسماء لأجلنا وحدنا.. زرعوا العشب حول أحجارنا، وهم يدندنون بلا نغم: «أنا معك دوماً؛ فلا تخف ولا تحزن».
هؤلاء الذين غفت - على تهويداتهم - عرائس أحلامنا المؤجلة؛ فلم يوقظها سوى شموس يقينهم فينا.. هم من وضعوا على رؤوسنا قواريرهم الملونة، ودعونا إلى الرقص، مُتَحدين العالم أن تنكسر القوارير، أو يتوقف اللحن!
هم من صدقوا يوم كذب غيرهم.. وأوفوا يوم خان سواهم.. وبقوا يوم لم يبقَّ أحد!
هؤلاء فقط من يستحقون «فطيرة ست الحسن»!
فطيرةٌ معجزتها أنها تبقى دوماً مشبعة دافئة.. دفء قلب خبزها ممتناً على مهل.. دفء روح التقمتها متلهفة على جوع.. ودفء نجم ولد خصيصاً لأجلنا؛ فمنحناه اسمنا، ورفعناه بأنفسنا؛ لنضعه وسط السماء موقنين أنه أبداً.. أبداً لن يحترق!