كثيرون يعرفونها، لكن نادرون من يعرفون أن مقدمة البرامج الإماراتية ناديا بركات، التي أطلت على مدى عقدين على شاشة «تلفزيون أبوظبي»، بابتسامة رائعة وعفوية نادرة وحضور محبب، قررت قبل عام أن تعطي شقيقتها جنان إحدى كلْيتيها ومعها كثير من الحب، قرار ليس سهلاً، قرار وهْب الأعضاء بعد الموت لا يزال يثير ألف سؤال وسؤال، فكيف لهبة من الجسم وهو ينبض حياة؟ «زهرة الخليج» التقت حنان وسلطت الضوء على قصتها.
الأخت الصغرى
حازت ناديا بركات في لندن على بكالوريوس في تجارة الأعمال وآخر في تصميم الأزياء. تزوجت وعاشت في لندن وعملت في MBC، قبل أن تعود إلى أبوظبي وتنضم مع زوجها علي السامرائي إلى «تلفزيون أبوظبي»، فقدّمت برامج عديدة، بينها «مزيونة»، «مشوار»، «هلا وغلا» و«جريدة بلا ورق»، وأحيت مناسبات وطنية، ونجحت في الإمساك بحنكة وحكمة، بمهنة تسري فيها كما الدم في الشريان، وبعائلة ناجحة تضم ثلاثة أبناء: ليال ولانا وسيف.
ناديا هي الأخت الصغرى في بيت يتشكل من ثلاث بنات: جنان، فردوس وهي. وثلاثتهن واحدة، ويوم قال الطبيب للأخت الكبيرة: «كليتك متضررة كلياً وستحتاجين إلى غسل كلى أو إلى زرع كلية»، لم تفكر ناديا مرتين بل أخرجت بطاقة التأمين من حقيبتها ووضعتها على الطاولة، وقالت لطبيب جنان: «أهبها كليتي وقلبي إذا احتاجت». زوج جنان فعل الشيء نفسه، لكن لأن ناديا تحت سن الـ45 عاماً، جعلها واهبة مناسباً أكثر.
خطأ طبّي
جنان أو «جنّة» كما تنادي ناديا شقيقتها الكبيرة، عانت يوم حملت قبل 18 عاماً بابنتها الوحيدة «تسمّم الحمل»، ولم يراعِ طبيبها تطور هذه الحالة، فارتفع ضغطها ونسبة البروتين في جسمها، وحين اكتشفت حالتها فجأةً بُعيد ستة أشهر من الولادة، كانت الكليتان قد تضررتا بنسبة 20%. أخذها والدها إلى «مستشفى كليفلاند» في الولايات المتحدة الأميركية، وقيل لها هناك بوضوح: ستحتاجين ذات يوم إلى زرع «كلية»، وصحّ ما قيل لها. وتتذكر بركات: كنا نتناول الغداء معاً حين شعرنا بجنّة متوترة، سألتها: ما بك؟ ألححتُ بسؤالي، فاعترفت: قال لي الطبيب إنني دخلت المرحلة الرابعة من تلف الكليتين، وبتّ في حاجة ماسة إلى زراعة كلية أو الغسل، هدّأت من روعها، وحين غادرت جنّة بحثت في «غوغل» عن معنى أن تكون الكليتان في مرحلة الضرر الرابعة، وأيقنت أن الأمر خطير.
أخذنا سبعة مواعيد من سبعة اختصاصيين في الكلى في أبوظبي، قصدنا «مستشفى كليفلاند» في أبوظبي، فالتقدم الطبي في الإمارات أسهم في تذليل صعوبات العملية، كل شيء كان متوافراً لنا طبّياً في دولة الإمارات، التي جلبت أفضل المؤسسات الطبية من الخارج إلى الداخل، أجريت الفحوص الطبية على أنواعها، وخضعت لجلسات نفسية ليتأكدوا أنني أخذت قرار وهْب الكلية بوعي كامل. صرت أعرف أكثر عن ماهية وهب الأعضاء، عن قيمة هذا الفعل، وعن القيود القانونية والنفسية والاجتماعية له، علمت أن الوهب لا يكون إلا بين الأقارب من درجات القربى الأولى، وأن الكثيرين لا يفهمون قيمة هذا الفعل حتى ولو كانوا مثقفين.
خيار آخر
لم يكن سهلاً على بركات أن تخبر والدتها أولاً، ثم أولادها ثانياً بقرارها، وحين جلست مع والدتها وأخبرتها أجابت بحسم: أريد إقفال هذا الموضوع، لن أقبل أن أداوي ابنتي جنّة وتعريض ابنتي ناديا للخطر، ابحثوا عن خيار آخر. لم يكن سهلاً على الأم المثقفة أن ترى الابنتين يدخلان المستشفى ويعانيان معاً، حتى ولو كانت معاناة الثانية حياة للأولى، لم تكن الأم قادرة على استيعاب أن معاناة ناديا مؤقتة، وأن أجرها في السماء سيكون ذات يوم كبيراً.
أولاد ناديا وزوجها علي شعروا بالخوف عليها لكنهم آزروها. ابنتها الكبرى ليال قالت لها: «مستعدة مثلك لأهب كليتي»، زوجها علي أبدى استعداده أيضاً لكنها ردّت عليه: «أنا أَولى بأختي»، ابنتها لانا سألت كثيراً عن صواب القرار الذي أخذته والدتها، أما ابنها سيف وهو أصغر العنقود فسكت، لكنه ما لبث أن راح يسأل همساً شقيقتيه: «هل ستكون ماما بخير؟». وفي إحدى تلك الليالي حلمت ناديا بوالدها المتوفي يأخذ منها طفلتها ويعطيها لشقيقتها جنّة قائلاً لها: «هذه طفلة ناديا انتبهي لها كثيراً»، فأيقنت أنها رسالة من السماء وفرحت بها.
اقتنعت الوالدة بعد إصرار ناديا، اقتنعت العائلة، انتهت الفحوص المخبرية، وآن موعد التنفيذ. ناديا وجنان دخلتا «مستشفى كليفلاند» وتابعتا عملية نزع الكلية، ثم زرعها فريقان طبّيان من «مستشفى كليفلاند» و«مستشفى خليفة». سبع ساعات قضتها ناديا في غرفة العمليات، وحين استفاقت من البنج سألت الجرّاح: كيف جنّة؟ أجابها: هي محظوظة لأنها حصلت على كلية رائعة، ولأن لديها شقيقة مثلك. ابتسمت ناديا وغفت، وفي اليوم التالي طلبت أن ترى جنان الموجودة في غرفة العزل، التقتا، ضحكتا، ذرفتا دموعاً كثيرة، وقالت عيناهما أشياء كثيرة.