في رحلة البحث عن التوازن النفسي، تبرز العلاقات الإنسانية واحداً من أهم العوامل المؤثرة في الصحة العاطفية. فالعلاقة الصحية ليست مجرد وجود أشخاص حولنا، بل هي شبكة دعم، تساهم في تعزيز الاستقرار النفسي، وتقوية الإحساس بالانتماء، وبناء بيئة آمنة للنمو الشخصي. 

  • «الازدهار العاطفي».. سبيلك لمواجهة تحديات الحياة

«ليلى» موظفة ناجحة في قطاع التسويق، تعتمد - بشكل كبير - على صديقتها المقربة، التي كانت دائمًا مصدر دعم وراحة لها. تشاركها كل تفاصيل حياتها، وتلجأ إليها عند اتخاذ القرارات، حتى في الأمور البسيطة. لكن، مؤخرًا، بدأت صديقتها تقلل تواصلها بسبب انشغالها بعملها، وحياتها الخاصة. هذا التغير جعل «ليلى» تشعر بالقلق والتوتر، فأصبحت تلومها على عدم الاهتمام، وتسألها - باستمرار - عن سبب تغيّرها. بالإضافة إلى ذلك، تعتمد «ليلى» - أيضًا بشكل كبير - على شقيقتها الكبرى، فتشعر بأنها لا تستطيع اتخاذ قراراتها، أو مواجهة المشكلات من دونها. وعندما لا تجدها، تشعر بالإحباط وعدم الأمان، كأنها فقدت توازنها.. لاحظت عائلة «ليلى» أنها أصبحت حساسة تجاه أي تغير في تصرفات مَنْ حولها، وتشعر بالرفض إذا لم تحصل على الاهتمام نفسه، الذي اعتادته. وقد أثر هذا في حالتها النفسية؛ فأصبحت سريعة الانفعال، وتعاني اضطرابات النوم، والتفكير الزائد في علاقتها بالآخرين.

تدرك «ليلى» أن التعلق الشديد يرهقها، لكنها لا تعرف كيف تتعامل مع مشاعرها؛ لتعيد التوازن إلى حياتها.. فهل تعاني «ليلى» تعلقاً عاطفياً غير صحي؟.. وكيف يمكنها أن تبني استقلالها العاطفي، من دون الشعور بالوحدة؟.. ومتى يصبح الاعتماد على الصداقات والعائلة أمرًا غير صحي؟

للحديث عن حالة «ليلى»، تسلط الدكتورة مريم إبراهيم بن دسمال، طبيب عام في «Ciconia recovery healthcare Investments» بأبوظبي، الضوء على مفهوم «الازدهار العاطفي»، وتأثيره في الصحة النفسية.

توضح الدكتورة مريم إبراهيم بن دسمال أن «الازدهار العاطفي» حالة من التوازن العاطفي والصحي، تمكّن الشخص من التعبير عن مشاعره، وإدارتها، بشكل صحي وفعّال؛ ما ينعكس إيجابيًا على جودة حياته وعلاقاته. وهو لا يعني فقط الشعور بالسعادة، بل أيضًا القدرة على التعامل مع المشاعر المختلفة بطريقة بناءة.. تقول: «على سبيل المثال، عندما يواجه شخص ما ضغطًا نفسيًا أو توترًا، فإن قدرته على التعبير عن مشاعره بوضوح، واللجوء إلى استراتيجيات صحية، مثل: التحدث مع صديق مقرب أو ممارسة الرياضة، تساعده في الحفاظ على استقراره النفسي. وتضيف الطبيب العام: «الازدهار العاطفي يعزز تقدير الذات، ويساعد الأفراد في بناء علاقات قوية. وعندما يتعلم الأطفال، مثلاً، كيفية التعبير عن مشاعرهم بوضوح – مثل قول: (أنا غاضب)، بدلاً من التصرفات العدوانية – فإنهم يطورون مهارات تساعدهم، طوال حياتهم، في التعامل مع التحديات العاطفية بشكل صحي».

فكيف يمكن التمييز بين العلاقة الصحية، وتلك التي تعيق النمو الشخصي؟.. تشير الدكتورة مريم إلى أن العلاقات الصحية تشبه حديقة مزهرة، حيث ينمو الدعم المتبادل والتفاهم كالأشجار القوية، بينما العلاقات السامة أشبه بصحراء جافة، تفتقر إلى أي عناصر تدعم النمو العاطفي. وتقترح طرح بعض الأسئلة على النفس؛ للمساعدة في التمييز بين النوعين، قائلةً: «عندما تحقق نجاحًا، هل تجد شخصًا يفرح لك، ويشجعك؟.. أم تشعر بالتجاهل، أو حتى بالتقليل من إنجازك؟.. وهل هذه العلاقة تمنحك شعورًا بالأمان العاطفي، أم تجعلك تشعر بالضغط والخوف من إبداء رأيك؟.. العلاقات الصحية توفر بيئة آمنة للتعبير والتطور، بينما العلاقات غير الصحية تستهلك طاقة الفرد، وتحدُّ من نموه العاطفي والنفسي».

  • «الازدهار العاطفي».. سبيلك لمواجهة تحديات الحياة

عوامل أساسية 

تؤكد الطبيب العام أن أساس العلاقات القوية يكمن في التواصل الجيد، والاحترام المتبادل، والدعم العاطفي. وتشبه العلاقة الناجحة بالسفينة التي تبحر بثبات في «بحر الحياة»، حيث يتطلب الحفاظ على توازنها القدرة على التعاون، والتناوب على القيادة عند مواجهة العواصف، وتضيف: «العلاقة الصحية تشجع كل طرف على تحقيق أهدافه الشخصية، دون أن يشعر بالتقيد، أو التنازل عن ذاته. كما أنها تحتاج إلى رعاية مستمرة، تمامًا كما تحتاج الزهور إلى الماء والشمس لتنمو». وتشير الدكتورة مريم إلى أن الذين يتمتعون بعلاقات قوية ومستقرة، عادةً، يمتلكون بعض الصفات الأساسية. فهم، أولاً، يتمتعون بمهارات تواصل جيدة، ويعبرون عن أنفسهم بوضوح، ويستمعون بصدق إلى الآخرين. كما لديهم القدرة على فهم مشاعر من حولهم، وهذا يُسهم في بناء علاقة قائمة على الاحترام والتعاطف. كذلك، الثقة والشفافية تعتبران من الركائز الأساسية في هذه العلاقات، فمن دونهما لا تكون العلاقة مستقرة وآمنة. كما أن الذين ينجحون في بناء علاقات قوية يعرفون كيف يتعاملون مع الخلافات بهدوء ومرونة، بعيدًا عن التصعيد أو التهرب، بل ويسعون إلى إيجاد حلول مناسبة للجميع.

تأثير العلاقات في الصحة النفسية والعاطفية

لا شك في أن العلاقات الناجحة لا تعني غياب الخلافات، بل تعني القدرة على حلها بأسلوب ناضج ومحترم. وهنا، تحذر الدكتورة مريم من أن «العزلة العاطفية» تشبه العيش في «جزيرة مهجورة»، حيث تزداد مشاعر الوحدة والقلق والاكتئاب. وترى أن الحل يكمن في البحث عن دعم اجتماعي حقيقي، من خلال التفاعل مع الأصدقاء والعائلة، والمشاركة في أنشطة اجتماعية تعزز الشعور بالانتماء. كما توصي بممارسة التأمل، فهي من العادات التي تساهم في تعزيز «التوازن العاطفي». وفي بعض الحالات، قد يكون من الضروري اللجوء إلى أخصائي نفسي؛ لتقديم الدعم والعلاج المناسب، وتقول: «تذكر أن العافية النفسية تقوم على توازن ثلاثة أركان، هي: الصحة الجسدية، والصحة العاطفية، والصحة الروحية. وعندما يكون هذا التوازن موجودًا، يصبح الشخص أكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة».

وتشير الطبيب العام إلى أن الدراسات، ومنها أبحاث جامعة هارفارد، أكدت أن العلاقات الاجتماعية القوية تقلل معدلات الاكتئاب والقلق، وتعزز الشعور بالسعادة، وتوضح: «العلاقات الصحية والقوية تلعب دورًا كبيرًا في تعزيز الصحة النفسية، وجودة الحياة. فالذين يمتلكون شبكات اجتماعية داعمة يشعرون بالأمان والانتماء؛ ما يعزز ثقتهم بأنفسهم. على سبيل المثال، إن قضاء وقت ممتع مع الأصدقاء، والبقاء مع الأشخاص الذين يدعمونك، ويشجعونك؛ يمكن أن يخففا التوتر، وأن يُشعراك بالسعادة والراحة. فالروابط العاطفية الإيجابية تدعم الجهاز المناعي، وتساعد في تقليل التوتر، من خلال إفراز هرمونات مثل (الأوكسيتوسين)؛ ما يعزز الشعور بالراحة والأمان».

  • «الازدهار العاطفي».. سبيلك لمواجهة تحديات الحياة

العلاقة بين جودة العلاقات ومستويات التوتر والقلق

الجهاز المناعي، والصحة النفسية، والصحة الجسدية.. ثلاثة عناصر مترابطة؛ فإذا وجد خلل في التوازن بأحدها، يؤثر مباشرة في العنصرين الآخرين.. فهل سبق أن شعرت بأعراض جسدية بعد حدث مرهق؟.. كم مرة وقعت ضحية لتأثيرات التوتر في صحتك الجسدية؟.. فكر في آخر مرة عانيت فيها صداعًا سيئًا بعد جدال!.. أو طفحاً جلدياً غير مُفَسَّر، أو حتى ارتفاع ضغط الدم، أو تفاقم أعراض القولون العصبي!.. تتابع الدكتورة مريم: «هناك مصطلح يسمى (جسدي - نفسي)، أو (Psychosomatic)، ويشير إلى الاضطرابات الجسدية، التي تنشأ نتيجة عوامل أو ضغوط نفسية. على سبيل المثال، إذا كانت جودة العلاقة سيئة وسامة، فهذا يؤدي إلى ضغط نفسي، ويزيد نسبة التوتر والقلق، وأيضًا تنتج عنه اضطرابات جسدية كالصداع النصفي، وآلام الظهر، وآثار أخرى، خاصة إذا تم تفعيل (القتال، أو الهروب)، الذي يترجم إلى (flight or fight)، وهو استجابة فسيولوجية تحدث في الجسم عند مواجهة تهديد أو خطر، وتفعيله - بشكل مستمر - يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، وأمراض مناعية عدة. والعلاقات القوية، مثل: الصداقات العميقة، أو العلاقات الأسرية المساندة، تساعد في إفراز الهرمونات الإيجابية، مثل: (الأوكسيتوسين)، و(الدوبامين)، التي يمكن أن تحسن المزاج، وتقلل التوتر. كما أن الدعم العاطفي الذي توفره هذه العلاقات يعزز الشعور بالراحة النفسية؛ ما ينعكس - بشكل إيجابي - على صحة الجسم، وجهاز المناعة».

ما العلامات، التي تدل على أن العلاقة أصبحت سامة، أو مؤذيةً نفسيًا؟.. تحذر الدكتورة مريم من أن العلاقات السامة قد تتسلل تدريجيًا إلى حياة الشخص، تمامًا كما تتحكم الخيوط في الدمى؛ فتقول: «إن الشخص - ساعتها - يشبه دمية في مسرحية، تتحكم فيه الخيوط التي يسحبها الشخص الآخر (المخرج). في البداية، قد لا تلاحظ شدّ الخيوط، حيث يبدو الأمر صغيرًا أو غير مهم. لكن تدريجيًا، تصبح الخيوط أكثر تشددًا، فتفقد السيطرة على تحركاتك وأفكارك وقراراتك. وتصبح معتمدًا على غيرك، فتستجيب لكل سحب، حتى إن لم يكن ذلك مريحًا. والمسيء يتحكم في السيناريو، ويجعلك ترقص على أنغامه - أحيانًا بالمدح، وأخرى بالعقاب - حتى تجد نفسك محاصرًا في دور لم تختره. وقد تشعر بأنك فقط تمثل دورًا، وأنك غير قادر على التحرر، أو اتخاذ قراراتك بنفسك، وتصبح عالقًا في دورة من السيطرة العاطفية والخوف، بلا حرية حقيقية لتكون نفسك». وتبين: «في هذه العلاقات، يشعر الشخص كأنه محاصر في جسده، فيبحث عن وسيلة للهروب، لكنه لا يستطيع، ولا يستجيب شريكه لاحتياجاته؛ ما يزيد شعوره بالوحدة. بالإضافة إلى ذلك، تكون هناك فجوة واضحة بين العطاء والأخذ؛ حيث يعطي الشخص كل ما لديه، بينما يأخذ الشريك دون أن يقدم أي شيء في المقابل».

وعن العلامات، التي تشير إلى أن العلاقة غير صحية، توضح الطبيب العام أن منها:

- التقليل المستمر من الشريك، أو انتقاده بشكل جارح.

- غياب الدعم والتشجيع، والشعور الدائم بالاستنزاف العاطفي.

- التلاعب العاطفي، أو السيطرة على قرارات الطرف الآخر.

- الخوف من التعبير عن الذات؛ خشية ردود الفعل السلبية.

وفي ما يخص تجاوز الحزن بعد إنهاء علاقة سامة!.. تؤكد الدكتورة مريم أن التغلب على علاقة سامة قد يكون صعبًا، لكن الشخص يحتاج إلى تخصيص وقت للشفاء، والسماح لنفسه بالتعبير عن جميع المشاعر، التي لم يكن مسموحًا له بها من قبل، مؤكدة أن التخلص من علاقة سامة ليس نهايةً، بل بداية جديدة لرحلة أكثر صحة وسعادة. وتوصي باستراتيجيات عدة، منها: 

- ممارسة الأنشطة، التي تجلب السعادة والاسترخاء، مثل: الرياضة، والتأمل.

- إعادة الاتصال بالأصدقاء والعائلة؛ لتعزيز الدعم العاطفي.

- التركيز على تطوير الذات، واستعادة الثقة بالنفس.

- استشارة أخصائي نفسي عند الحاجة، خاصة إذا كان الحزن عميقًا ومستمرًا.

تجنب تكرار العلاقات غير الصحية 

تؤكد الدكتورة مريم أن الوعي الذاتي هو المفتاح؛ لتجنب تكرار الأنماط العاطفية السلبية، ويجب على الفرد أن يكون واعيًا بمشاعره وسلوكياته السابقة، ويعمل على تطوير الوعي الذاتي، والنضج العاطفي. فالوعي الذاتي يساعد الشخص في معرفة الأنماط السلبية، التي كانت موجودة في العلاقات السابقة، بينما النضج العاطفي يعطيه القدرة على اتخاذ قرارات حكيمة، ووضع حدود واضحة في العلاقات الجديدة.

الصحة النفسية من خلال العلاقات

تقول الدكتورة مريم إبراهيم بن دسمال: «إن الأنشطة الجماعية، مثل: الرياضة، والأنشطة الثقافية، والتطوع، تساعد في تقوية العلاقات، وتعزيز الصحة النفسية، من خلال توفير فرص للتواصل والانتماء»، مؤكدة أن الشخص يمكنه التعامل مع ضغوط الحياة اليومية دون التأثير في العلاقات، من خلال إدارة الوقت بفاعلية، وتخصيص وقت للراحة، وتعلم التفريغ العاطفي. وتختتم قائلة: «ابدأ بتقدير علاقتك مع نفسك؛ لأن الطريقة التي تعامل بها ذاتك ستحدد جودة علاقاتك مع الآخرين، ولا تخف من وضع الحدود، ولا تتردد في الابتعاد عن العلاقات التي تستنزف طاقتك؛ فالحياة مليئة بالأشخاص الذين يستحقونك، فامنح نفسك فرصة للعثور عليهم».