في رحلة البحث عن التوازن النفسي، يَبرز الصيام كإحدى أهم التجارب، التي تمنح الإنسان فرصة إعادة ترتيب أولوياته النفسية والجسدية. فليس الصيام مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو رحلة إلى أعماق النفس، حيث يعيد الإنسان ترتيب أولوياته، ويكتشف قوته الحقيقية في مواجهة الرغبات والتحديات.. وللحديث عن هذا الموضوع، حاورنا بشرى الزبيدي، الأخصائية النفسية الإكلينيكية في مركز ستانفورد الطبي، التي سلطت الضوء على الأثر العميق للصيام في بناء الشخصية، وتقوية الانضباط الذاتي، وكيف يكون وسيلة فعّالة لتحسين الحالة المزاجية، وتقليل مستويات القلق، وتعزيز الإحساس بالراحة النفسية.

  • الصيام رحلة روحية لإعادة اكتشاف الذات

رحلة إلى أعماق النفس 

تبدأ الأخصائية النفسية الإكلينيكية، حديثها، بالتأكيد على أن الصيام أكثر من مجرد ممارسة دينية، أو عادة غذائية، فهو نظام نفسي متكامل، يُعيد ضبط العادات الذهنية والعاطفية.. تقول: «عندما نصوم، فإننا لا نُخضع أجسادنا فقط لاختبار الإرادة، بل نمر أيضًا بتجربة نفسية عميقة؛ تجعلنا أكثر وعيًا بذواتنا، وأكثر قدرة على التحكم في مشاعرنا، وسلوكياتنا. فالصيام يمنح الدماغ راحة من الانشغال الدائم بالوجبات اليومية، والروتين المعتاد، ما يسمح للفرد بالتركيز على الجوانب الأهم في حياته، مثل: التأمل الذاتي، وإعادة تقييم العادات، والتخلص من التصرفات غير الصحية». 

فكيف يساعد الصيام في ضبط النفس؟.. توضح بشرى الزبيدي أن التحكم في الرغبات أحد العناصر الأساسية، التي يطورها الإنسان أثناء الصيام. فحينما يصوم الإنسان، فإنه يمارس فن التحكم في النفس، ويتعلم كيف يؤجل متعة اللحظة؛ ليحصد قوة الإرادة التي تقوده نحو نجاحات أعمق وأطول مدى. وهذه المهارة تُعرف في علم النفس بـ«Delayed Gratification»، وهي مهارة ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالنجاح في الحياة، شخصياً ومهنياً. وتضيف الزبيدي: «الصيام فرصة ذهبية؛ لتدريب العقل على التحكم في الرغبات، فكلما زادت قدرة الشخص على الصبر والتحكم في نفسه أثناء الصيام، زادت قدرته على تطبيق ذلك في مواقف أخرى، مثل: مقاومة الانفعالات السريعة، وتنظيم الوقت، واتخاذ قرارات أكثر عقلانية».

إرادة.. وصمود 

الصيام لا يعزز فقط التحكم في الرغبات، بل يعمل أيضًا على تقوية الإرادة، وفقًا للزبيدي، لأن قوة الإرادة ليست مجرد خاصية فطرية يولد بها الإنسان، بل هي مهارة يمكن تطويرها وتنميتها، وتتابع: «عندما يلتزم الإنسان بالصيام يومًا بعد يوم، رغم شعوره بالجوع أو العطش، فإنه يُعيد برمجة عقله على الصمود والتحمل. وهذه القدرة لا تقتصر على الامتناع عن الطعام، بل تمتد إلى جوانب الحياة كافة، حيث يصبح الشخص أكثر قدرة على تحمل التحديات.. نفسية، واجتماعية، وحتى مهنية».

عطاء.. وتضامن

كيف يمكن للصيام الجماعي أن يعزز الروابط الاجتماعية، ويقلل الشعور بالوحدة؟.. تقول الأخصائية النفسية الإكلينيكية: «في ليالي رمضان المباركة، تظهر صور التآلف والتكافل الاجتماعي السامية، حيث تُنظم (موائد الرحمن) في المساجد والشوارع، وتُوزع وجبات الإفطار على الصائمين والمحتاجين. وهذه الجهود تغذي في نفوسنا روح العطاء والتضامن، وتعيد إلى أذهاننا أجمل الذكريات، التي تشدنا إلى قيمتَي: الإخاء والمودة. في ليالي رمضان، لا نشعر بالوحدة أبدًا، فحتى اللحظات التي نقضيها بمفردنا تحمل في طياتها إحساسًا بالمشاركة والانتماء، وتظهر بها  أسمى صور العطاء والتضامن، فتارة ندعو شخصاً إلى الإفطار، أو نُدعى إلى بيت آخر، ما يبدد مشاعر العزلة بلمسة من الحب والدعم».. وتضيف: «اللقاءات المجتمعية، والأنشطة الجماعية، التي تشكل جزءًا من التقاليد الرمضانية أيضاً، فرص حقيقية للتواصل لكل من يشعر بالوحدة. ففي رمضان، يجمعنا الصيام خلال لحظات تُوقظ في قلوبنا شعورًا عميقًا بالانتماء، حيث يملأ دفء الشهر الفضيل الأرواح بنور المحبة والعطاء. وفيه، أيضاً، تشرق الابتسامات على الوجوه مع لمسة من الجمال والرحمة، ما يجعل كل لحظة احتفاءً حقيقياً بالتواصل، والتآلف».

تأثير بيولوجي 

لا تنتهي فوائد الصيام عند المستوى النفسي فقط، بل تمتد إلى التغيرات الكيميائية في الدماغ. وتشرح بشرى الزبيدي، قائلة: «أثناء الصيام، يقل إفراز هرمون التوتر (الكورتيزول)؛ ما يساعد على تهدئة الجهاز العصبي، وتقليل مشاعر القلق. في المقابل، يزداد إفراز هرمونات السعادة، مثل: (السيروتونين، والإندورفين)؛ ما يُشعر الصائم بالرضا، والراحة النفسية. كما أن الصيام يُحفز عملية (الالتهام الذاتي) Autophagy، وهي عملية بيولوجية تعمل على تنظيف الخلايا العصبية، وتعزيز صحة الدماغ، ما يساعد في تحسين التفكير والتركيز، ويمنح الإنسان شعورًا بالصفاء الذهني».

  • الصيام رحلة روحية لإعادة اكتشاف الذات

تحقيق التوازن 

وللاستفادة من الصيام دون الشعور بالإرهاق أو الضغط النفسي، من المهم مراعاة احتياجاتنا العاطفية والجسدية، وتؤكد الزبيدي أنه يمكن تحقيق ذلك، من خلال:

• إدارة طاقتنا بحكمة: عبر أخذ فترات راحة كافية، وتجنب تحميل أنفسنا فوق طاقتها؛ للحفاظ على مستوى متوازن من النشاط طوال اليوم.

• تبني نهج مرن في العمل والالتزامات اليومية: من خلال تقليل المهام غير الضرورية، أو التي قد تسبب ضغطًا إضافيًا.

• ممارسة اللطف مع أنفسنا: الشعور بالتعب أمر طبيعي، لكن الأهم هو كيفية التعامل معه بلطف، عبر منح أنفسنا المساحة والوقت اللازمين للاستراحة، وإعادة الشحن.

اضطرابات نفسية 

رغم الفوائد المتعددة للصيام، توضح الأخصائية النفسية الإكلينيكية أن بعض الحالات النفسية الحادة، قد تتطلب استشارة طبية قبل بدء الصيام؛ لأن التغيرات البيولوجية الناتجة عن الصيام قد تؤثر في كيمياء الدماغ لدى بعض المرضى، ما قد يؤدي إلى تفاقم الأعراض في بعض الحالات.. فمَن الذين تجب عليهم مراجعة متخصص قبل الصيام؟.. هؤلاء الأشخاص هم:

- الذين يعانون «اضطراب الاكتئاب الحاد»: فقد يؤدي الصيام إلى تغيرات في المزاج، تحتاج إلى متابعة دقيقة.

- الذين يعانون «اضطراب القلق العام»: لأن الامتناع عن الطعام قد يزيد مستويات القلق لدى بعض الأشخاص.

- مرضى اضطرابات الأكل، مثل: فقدان الشهية العصبي أو الشره المَرَضي، فقد يؤثر الصيام سلبًا في علاقتهم بالطعام.

استثمار الصيام 

كيف يمتد تأثير الصيام إلى ما بعد رمضان؟.. تؤكد بشرى الزبيدي أن الصيام ليس تجربة مؤقتة، بل خبرة يمكننا أن نحملها معنا طوال العام وفرصة لتبني نمط حياة أكثر انتظامًا، حيث يصبح الانضباط عادة، والصبر قوة، والتأمل وسيلة لإعادة التوازن إلى حياتنا. وتوضح: «القدرة على ضبط النفس، خلال رمضان، يمكن أن تكون نقطة انطلاق؛ لتطوير نمط حياة أكثر انتظامًا. ويمكن تطبيق مبادئ الانضباط الذاتي - المكتسبة من الصيام - في تحسين إدارة الوقت، وتقليل العادات غير الصحية، والتحكم في الانفعالات بشكل أكثر حكمة». وتنصح بكتابة الأهداف الشخصية، التي اكتسبها الفرد خلال الصيام، والعمل على تطبيقها بشكل تدريجي، بعد انتهاء الشهر الفضيل. على سبيل المثال، إذا كان الصيام قد ساعد في تقليل استخدام الهاتف، أو تحسين العادات الغذائية، فمن الأفضل الاستمرار في هذه التعديلات؛ لتصبح نمط حياة دائمًا. 

  • الصيام رحلة روحية لإعادة اكتشاف الذات

سلام داخلي 

في الختام، تؤكد الأخصائية النفسية الإكلينيكية، بشرى الزبيدي، أن الصيام ليس مجرد طقس ديني أو ممارسات غذائية، بل هو رحلة متكاملة نحو تحقيق التوازن النفسي، وتعزيز القدرة على التحكم في المشاعر، وتحقيق السلام الداخلي. فعندما نصوم بطريقة متوازنة، يصبح الصيام أداة فعالة لدعم الصحة النفسية، وتعزيز القوة الداخلية، والتعامل مع تحديات الحياة بأسلوب أكثر هدوءًا وإيجابية.. تقول: «الصيام يُعيد الإنسان إلى فطرته، ويجعله أكثر وعيًا بما يحتاج إليه فعلًا، وأقل انشغالًا بما هو غير ضروري. ومن خلال التحكم في الرغبات، وتعزيز الإرادة، وتطوير القدرة على الصبر، يصبح الصيام تجربة شاملة، تساعد الفرد على عيش حالة من الاتزان النفسي، والروحي». وتضيف: «في النهاية، الصيام ليس فترة زمنية محددة، بل نظام نفسي عميق، يتيح للإنسان اكتشاف قدراته الحقيقية على التحكم في النفس، والصمود أمام التحديات، وإعادة تشكيل عاداته اليومية. وإذا تم استثماره بشكل صحيح، فإنه لا يعزز فقط الصحة النفسية، بل يمتد تأثيره ليجعل الإنسان أكثر قوة ووعيًا بمختلف جوانب حياته».

نصائح.. وتوصيات

1. ممارسة الهدوء الداخلي: الصيام فرصة ثمينة للتهدئة الداخلية، حيث يمنحنا مساحة للتأمل والاسترخاء، بعيدًا عن صخب الحياة اليومية. ومن المهم استغلال هذا الوقت للتفكير في أهدافنا، وتقييم مشاعرنا بوعي؛ ما يساعدنا في تعزيز توازننا النفسي، والعاطفي.

2. التركيز على الامتنان والتقبل: خلال الصيام، قد نمر بلحظات من التحدي، لكنها - في جوهرها - فرصة لتقدير النعم التي قد نغفلها في زحمة الحياة. وممارسة الامتنان، بانتظام، تعزز لدينا مشاعر الرضا والسلام الداخلي، ما ينعكس إيجابيًا على صحتنا النفسية، وعلاقاتنا بالآخرين.

3. الاستفادة من الطاقة الذهنية المتجددة: فترات الصيام، غالبًا، تكون مصحوبة بوضوح ذهني، وصفاء فكري؛ ما يجعلها وقتًا مثاليًا لممارسة الأنشطة، التي تتطلب تركيزًا وإبداعًا، مثل: القراءة، والكتابة، والتخطيط للمستقبل؛ فعندما يكون الذهن أكثر نقاءً وتركيزًا؛ يصبح الإبداع أكثر انسيابية، وتكون القرارات أكثر حكمة.