القهوة الأولى.. عنوان الرائحة الأولى لمركز البيت، رائحة هيل الأم والجدة، قهوة فواحة بمسارب الأرض وحقول البن، قهوة الموقد والخيمة والحطب.. أتذكرها جيداً، قهوة الأمهات المتضوعة صباحاً بين سكك البيوت، ونسمة البن الطوّافة بين أرجاء البلدة مع بروز أولى بوادر الضحى.. أتذكر ذلك بضحكة صامتة؛ لأنني كثيراً ما ربطتُ تلك الرائحة الصباحية بأيام الغياب المدرسي.
ينتهي هدوء البيت صباحاً مع حلول الضحى، حينما تصلني أصوات خطوات النسوة، ورنين أساورهن، و«قرقعة» فناجين القهوة، والحكايات المتشعبة.
ماذا الآن؟.. ولماذا تتداعى ذاكرة تلك القهوة الأمومية، وأنا في غمرة انشغالي باحتساء قهوة حداثية على الجبل؟!.. يلهمني هذا المقهى الشتوي الشاعري، الواقف على طريق جبلي مليء بالسحب والبرد في شهر يناير، مقهى يتوسط الطريق بين بلدتَي: المنيعي التابعة لإمارة رأس الخيمة، وحتا التابعة لإمارة دبي، والذي اتخذ صاحبه له اسماً لافتاً هو «تقهوى كافيه»؛ فجمع - بكلمتَيْه - بين الأصالة والحداثة.
«تقهوى» كلمة تُحيلني إلى ضيافة بيوتنا الإماراتية، وهي فعل أمر طلبي، مفعم بـ«الرجوى»، وحميمية الضيافة، وهي لفظة لا تزال متداولة بيننا، فمن خلالها نرجو من الضيف البدء بـ«التقهوي»، والاستمتاع بطقس الضيافة.
«التقهوي» الأول كان من فنجان نسوة البيوت، قبل انتشار «الكافيهات»، وتحولات القهوة في الطعم، ونوع البن، ونسوة «الكافيه»، وطقس التصوير.
«التقــهــوي» الأول يحيلـنــي إلــى «نوستالجيا» حسية هادئة وصاخبة باتزان.. متدفقة من روائح عباءات الأمهات المعطرة بالورد والعنبر والمسك والزعفران ودهن العود. كانت رائحة بيتنا وقت «التقهوي» - وبعده - أشبه بدكان العطار، أو محل لبيع العطور الشعبية والمحلية، رائحة عطور متداخلة مع رائحة الفاكهة، والمائدة العامرة بأصناف طعام تم إعدادها في مطبخ الأم.
وفي المقاهي الحديثة - رغم أنها وفرت لنا فرصة العزلة الأنثوية، والتفرد المثمر بالقراءة، أو الكتابة، أو التأمل - لم يَعُدْ بوسع الأمهات ترك رائحة عباءاتهن، كما كنَّ يفعلن في البيوت؛ فالمقاهي الحديثة تبعثر الرائحة؛ فيتيه جذر العطر، ويتداخل بمعطرات الجو، وروائح الزحام المتنوع لمرتادي المقهى، من الرجال والنساء، وأحياناً الأطفال، والخادمات أيضاً، وتتداخل رائحتنا بالبن البرازيلي، أو الكولومبي، أو الإثيوبي..!
لنقل، صراحة، إن رائحة «التقهوي» في هذه المقاهي لم تعد تحفظ جوهر الانتشاء الأمومي؛ فقد تاهت دلالة الأحاديث، وفرصة الاستراحة المتاحة للأمهات؛ للتحرر من عبء البيت، وفق سويعات قليلة من التندر، والمزاح، والحكايات المأثورة، والأخبار!
إن فعل «التقهوي» النسوي في البيوت قد أنتج المرويات والمحكيات، وأعاد صياغة الأثر والموروث عبر السنين، وهذا أيضاً ما تفتقده المقاهي الحديثة.. حقيقةً، إننا بتنا نفتقد روح «التقهوي» الصباحي في البلدة؛ وبافتقادنا هذا نفتقد الأم القديمة!