مع إعلان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، «عام 2025» عاماً للمجتمع، تحت شعار «يداً بيد»، تصادف أنني كنت قد أوشكت على الانتهاء من قراءة كتاب «حضارة السمكة الحمراء»، للكاتب الفرنسي برونو باتينو، الذي يدور حول قضيةٍ ذات تأثير مباشر وقوي في المجتمع، والعلاقات المجتمعية المختلفة، فقد كان الكتاب - حينما نشر عام 2018 - صرخةً في فضاء الإنترنت، ومحذراً من تداعيات التحولات السلبية لشبكات التواصل الاجتماعي، التي تؤثر في ترابط المجتمعات، وتساهم في المزيد من عزلة الفرد داخل ذاته، وما يصاحبه من تهشم العلاقات المجتمعية السوية، بين المجتمع والفرد.
في كتاب باتينو جملةٌ، أجدها إحدى أخطر الجمل، التي وردت في الكتاب، هي «بَنَت الإمبراطوريات الرقمية الجديدة أنموذجاً من العبودية الرقمية الطوعية»؛ فحينما نقف لنتأمل تلك الحالة من العبودية الطوعية لشبكات التواصل الاجتماعي، نكتشف أنها جملة تصف - بمنتهى الواقعية - علاقاتنا بشبكات التواصل، وكأن الهاتف المحمول «صك العبودية» المختار والطوعي للعالم الافتراضي والرقمي، والأزمة تزداد حدتها مع التطور وانطلاق الذكاء الاصطناعي نحو السيطرة، وتنويع قيوده حول معصم البشرية.
باتينو يطرح - في الكتاب - مستقبل العقل البشري، مقابل إشكالية فقدان الانتباه والتركيز في هذا العصر الرقمي، حيث أصبحت العقول البشرية مثل «ذاكرة السمكة الحمراء»، التي تمتد ثواني معدودة؛ لأن الإنسان المربوط طوعاً بتلك الشبكات أصبح ضعيف الذاكرة أمام البحث المستمر وراء الجديد والمختلف، من دون أي قيمة، على شبكة الإنترنت في ظل ارتباطه بـ«الشاشة الزرقاء»، فيمرر التغريدات والفيديوهات دون وعي، ويذوب في الفراغ من دون معنى أو قيمة حقيقية، وهي المبادئ التي قام عليها ما سماه الكاتب «اقتصاد الانتباه».
وقد أشار الكاتب الفرنسي إلى أن الاستخدام المفرط لشبكات التواصل الاجتماعي، والخضوع المستمر لمغريات الانتباه إليها، ينعكسان سلباً على الصحة النفسية للفرد، ما يؤدي إلى حالة من القلق والتوتر المستمرين؛ بسبب تحول انتظار الإشعارات إلى حالة من الإدمان. وهنا، أطلب منكم أن تحسبوا - على مدار اليوم - كم مرةً أمسكتم بهاتفكم المحمول؛ لتطلعوا على الإشعارات الجديدة، وأن تفهموا ما تسجلونه من نتائج.
يدعونا باتينو إلى أن نعود إلى حياة أكثر بطئاً، حيث يُرَكَّز على مهام الوعي والعقل، دون أن تشتتنا الإشعارات. وكما أشار الكاتب الفرنسي، فإن الحل ليس في القضاء على التكنولوجيا، بل في أن نعيد صياغة علاقتنا بها؛ لتمارس مهمتها، التي وجدت من أجلها، وهي أن تكون شبكة الإنترنت وسيلة لترابط البشر، وتقليل المسافات بين المجتمعات؛ لأنها تحولت إلى النقيض، وأصبحت أنبوباً زجاجياً مغلقاً، ينعزل فيها الفرد عن مجتمعه؛ فهو يرى الجميع، لكنه يفتقد حميمية التواصل الإنساني، وليس هناك أنسب من إعلان هذا العام «عام المجتمع»؛ لتكون الخطوة الأولى فيه إعادة صياغة علاقتنا بشبكات التواصل الاجتماعي، وكسر أنبوب العزلة الذي أصبحنا نعيش فيه منعزلين؛ لتحل محلها الروابط الحقيقية بين الفرد والمجتمع.
الكتاب مهم لكل من يشعر بأنه يفقد السيطرة على انتباهه في العصر الرقمي، ودعوةٌ إلى التفكير في كيفية استعادة هذا الانتباه، وكسر قيود تلك العبودية الطوعية.