لا يمكن البت، نهائيًا، في حكاية تفوق مصمم الأزياء الفرنسي، الجزائري المولد، إيف سان لوران، على معلمه الشهير كريستيان ديور، وما زال الأمر محط جدل كبير حتى يومنا هذا، إذ يرى عدد كبير، من المهتمين بعالم الأزياء والموضة، أن إيف سان لوران تفوق بالفعل على معلمه كريستيان ديور، واستطاع بعلامته التجارية المميزة وضع اسمه بين أهم المصممين عبر التاريخ. فيما يرى آخرون أنه لا يمكن لأحدٍ أن يتفوق على ديور، فهو الذي غيّر قواعد تصميم الأزياء، ونقلها بالفعل من مكان لآخر، وأحدث ثورة حقيقية فيها، ما زالت آثارها ماثلة حتى يومنا هذا.

  • إيف سان لوران.. هل تفوق التلميذ على معلمه؟

طفل موهوب:

منذ نعومة أظافره في الجزائر، ظهرت مواهب إيف سان لوران الفنية، وبدأ شغفه بالموضة والأزياء يظهر للعيان، وأبدى الطفل لوران ميلًا كبيرًا للفن والأزياء، وكان يقضي وقتًا طويلاً كل يوم في الرسم على الورق؛ لتنمو موهبته وتكبر يومًا بعد يوم.

كان لوالدته، المحبة للموضة والمتابعة لها، تأثيرٌ كبيرٌ في تشكيل هويته، وتشجيع اهتمامه بها، إذ إنها ظلت تُحضر له كل المجلات المهتمة بنشر أخبار الموضة وتصاميم الأزياء الراقية، وتحثه على تنمية موهبته وتطويرها، والمضي قدماً في هذا المجال الإبداعي.

وعندما بلغ إيف 13 عاماً، بدأ بالفعل يقلد التصاميم المنتشرة آنذاك، ويطلق تصاميمه الخاصة، التي كان يستوحيها من تلك المجلات. وبدأ ينمي موهبته ذاتيًا دون وجود معلم حقيقي، خاصةً أن الطفل الفرنسي عُرف بعزلته عن الآخرين، وهي العزلة التي رافقته طيلة حياته، وكان يقضي معظم أوقاته متجولًا بين رسوماته وتصاميمه.

بعد بلوغه 17 عامًا، غادر إيف سان لوران الجزائر، وتوجه نحو باريس لدراسة الأزياء في مدرسة «إيتا مودي»، التي تعد واحدةً من أهم مدارس تعليم تصميم الأزياء، وبدأ هناك يُظهر موهبته الحقيقية للعلن.

  • إيف سان لوران.. عندما يصبح التلميذ أسطورة

التلميذ.. والمعلم:

شكل عام 1955 تحولًا جذريًا في حياة إيف سان لوران، ولم يكن قد تجاوز الـ19، فقد آمن به أشهر مصممي الأزياء على الإطلاق كريستيان ديور، واختاره بقناعةٍ تامةٍ للعمل في دار الأزياء الخاصة به، بل إن قناعة ديور بلوران دفعته لتعيينه مساعدًا رئيسيًا له. وشكلت تلك العلاقة نقطة فارقة في مسيرته المهنية، وكان لها دور كبير في تطور موهبته وصقلها، وكان لديور تأثير كبير لا يمكن تجاهله في كل ما قدمه لوران لاحقًا، وحتى بعد وفاة ديور.

ومع عمله تحت الإشراف المباشر من كريستيان ديور، وتطور موهبته الفذة بسرعة فائقة، بدأ إيف سان لوران ينثر إبداعاته الخاصة، التي باتت تظهر بوضوح في أزياء الدار، خاصة أنه استطاع أن يجمع بين الأنيق والتقليدي، وبين الحداثة والتطور، وهذا ما شهدته تلك الحقبة الزمنية.

بات إيف سان لوران شخصية رئيسية لا يمكن الاستغناء عنها في دار ديور، وقد منحه الأخير تقديرًا كبيرًا؛ لأنه كان يرى فيه مستقبلاً مشرقًا في صناعة الأزياء، وأنه قادرٌ على بناء مستقبل عظيم ومميز.

وبعد ثلاث سنوات من العمل جنبًا إلى جنب مع ديور، جاءت اللحظة الحاسمة، وفاة كريستيان ديور المفاجئة، ولوران في عمر 21 عامًا، فوقع الاختيار عليه؛ ليكمل المسيرة المميزة، ويتولى إدارة دار «ديور» للأزياء، ليكون أصغر مصمم للأزياء يتولى هذا المنصب عبر التاريخ. ويشكل الأمر تحديًا كبيرًا لشاب في مقتبل العمر، وفي بداية مسيرته المهنية.

  • إيف سان لوران.. عندما يصبح التلميذ أسطورة

تصاميم جديدة:

بعد أشهر قليلة من وفاة كريستيان ديور، أعلنت داره للأزياء تقديمها أول عرض جديد لها، بإشراف كامل من المدير الفني الجديد إيف سان لوران، الذي قبل التحدي الصعب، واستطاع أن يذهل العالم بهذا العرض، الذي مزج فيه الرقي بالأنوثة التي اشتهرت بها «ديور»، والحداثة بالتجديد. قدم لوران تصاميم جديدة لم يعرفها العالم من قبل، مثل: تصاميم الخطوط المستقيمة، والأقمشة الأكثر خفة، كالشيفون والساتان. كما قدم في هذا العرض تصاميم أكتاف جديدة، أبرزها الأكتاف المنتفخة.

وعرف العالم من إيف سان لوران الفساتين المنفوشة، التي تميزت بطبقات متعددة من الأقمشة الخفيفة، التي تمنح الفستان إحساسًا بالنفاشة والرقة. وتكون أقل رسمية من التصاميم، التي سبق أن عرضتها الدار.

استقلالية كاملة:

بعد ثلاث سنوات كاملة في إدارة دار ديور للأزياء، وتحديدًا عام 1961، كان لا بد لهذا المصمم الفذ أن ينتقل لمرحلة الاستقلالية الكاملة، ويفتتح داره الخاصة «إيف سان لوران»، الاسم الذي ما زال مشاركًا في صدارة العلامات الراقية حتى اليوم.

وبعد عام واحد من تأسيس الدار، تم إطلاق العرض الأول لمجموعة إيف سان لوران، التي تضمنت - كما عُرف عنه - مزجًا بين العصرية والراحة، والكلاسيكية التقليدية، وهو ما يميز هذه العلامة حتى الآن.

وتعد البدلة النسائية من أعظم ما قدمه إيف سان لوران لعالم الموضة، فهي لم تكن معروفة قبل ابتكاره لها، ورغم أنه بدأ العمل بهذه الفكرة خلال وجوده في دار كريستيان ديور، إلا أنه أطلقها بشكل رسمي بعد ذلك بسنوات، وكانت علامة مسجلة له ولداره الخاصة بالأزياء.

وقد شكلت البدلة النسائية تحديًا كبيرًا لكل قواعد الموضة التقليدية، ووصفها كثيرون بأنها تصميم متمرد على الأعراف والعادات، لكنه استطاع من خلالها تغيير النظرة بشكل كامل إلى الأزياء النسائية، فعبرت البدلة النسائية المكونة من جاكيت وسروال عن قوة النساء، واستقلاليتهن، وقدرتهن على إحداث الفارق.

  • إيف سان لوران.. عندما يصبح التلميذ أسطورة

التقاعد.. والوفاة:

بعد سنوات طويلة من العمل والتألق والتميز والتفرد، رافقتها مشاكل صحية ونفسية، وعزلة كبيرة، قرر المصمم العالمي، الذي غير قواعد الأزياء، عبر التاريخ، إعلان تقاعده والتوقف عن العمل بشكل كامل.

وفي عام 2002، خسر عالم الموضة واحدًا من أفضل رواده عبر العصور، الذين صنعوا به تاريخًا وحاضرًا ومستقبلًا، وقدموا تصاميم خالدة، وابتكارات مذهلة، فقد أعلن إيف سان لوران تقاعده بشكل نهائي. وفي عام 2008، رحل لوران عن دنيانا هذه، بعد أن غير ملامح صناعة الموضة الحديثة، تاركًا خلفه إرثًا هائلًا واسماً لامعًا في علامته، التي لا تزال واحدةً من أهم علامات الموضة، وأشهرها حتى هذا الوقت.

مسيرة مستمرة:

ومنذ تقاعده، مرورًا بوفاته، تعاقبت على إدارة دار «إيف سان لوران» نخبة من أبرز مصممي الأزياء في العالم، هم: توم فورد، تبعه في عام 2004 الإيطالي ستيفانو فيلين، وعُرف بأنه حامي تراث «إيف سان لوران». وفي عام 2012، تم تعيين المصمم الجزائري الفرنسي هيدي سليمان مديراً إبداعياً للدار، وشهد عصره انتقادات كبيرة وجهت له، بسبب التغييرات الكثيرة التي أحدثها في تصميمات الدار، لكنه رغم ذلك استطاع إدخال الحداثة، ووضع لمسة معاصرة على أزياء الدار. وفي عام 2016، غادر سليمان الدار؛ ليأتي مكانه مصمم الأزياء البلجيكي من أصل إيطالي أنتوني فاكاريلو، الذي استطاع أن يعيد للدار روحها وألقها بتصميماته الجريئة والمثيرة، وهي التي أعادت الدار واحدةً من أهم دور الأزياء في العصر الحديث.