لا يمكننا التحكم في الماضي، لكننا نستطيع التأثير في المستقبل؛ فنحن الجيل الذي يشهد تغيرات بيئية هائلة، تتطلب منا أن نكون أكثر وعياً ومسؤوليةً، تجاه مستقبلنا، ومستقبل كوكبنا. إن أمامنا، الآن، فرصة كبيرة؛ لنكون جزءاً من الحل. وقد رسمت لنا الأمم المتحدة رؤية مستقبلية، عبر وضع 17 هدفاً طموحاً؛ للحفاظ على كوكب الأرض، وجعله أكثر صحةً وسعادةً.. فأين نحن، اليوم، من تحقيق هذه الأهداف؟!
إن تحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية ضرورة لا غنى عنها؛ لضمان مستقبل مستدام. لهذا وضعت الأمم المتحدة الهدف الثامن من أهداف التنمية المستدامة، الذي يدعو إلى «العمل اللائق، ونمو الاقتصاد»؛ ليكون بمثابة رؤية شاملة، تسعى إلى تمكين الأفراد من خلال توفير فرص عمل منتجة ومجزية، وتحقيق النمو الاقتصادي الذي يحترم البيئة، ويعزز رفاهية المجتمع.
وفي هذا السياق، أصبحت دولة الإمارات نموذجاً عالمياً في تحقيق هذا الهدف، فقد نجحت في دمج الابتكار والاستدامة في مسيرة نموها الاقتصادي، من خلال مبادراتها الرائدة بمجالات عدة، مثل: تعزيز ريادة الأعمال، والاستثمار في القطاعات المستقبلية، ووضع قوانين تحمي حقوق طرفَيْ عقد العمل، ما مكنها من بناء اقتصاد متنوع ومستدام، يوفر فرص عمل لائقة للمواطنين والمقيمين على حد سواء، ويحافظ على استدامة الموارد.. فكيف ألهمت دولة الإمارات العالم لتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والعمل اللائق؟.. وكيف يُمكن للهدف الثامن أن يكون بوابة تحقيق استدامة شاملة؟.. دعونا نكتشف هذا!
ماهية الهدف الثامن
يرتبط الهدف الثامن، من أهداف التنمية المستدامة، بتعزيز النمو الاقتصادي المستدام والشامل للجميع، مع توفير فرص متساوية؛ لحصول الجميع على عمل لائق، يؤمّن دخلاً عادلاً، في بيئة عمل آمنة تضمن الحماية الاجتماعية للأسر، ما يساعد في بناء مستقبل أفضل لتطوير الذات، وتعزيز الاندماج الاجتماعي، وتحسين مستوى المعيشة، والحد من الفقر. إلا أن استمرار أزمة نقص فرص العمل اللائق، وضعف الاستثمارات، يهددان العقد الاجتماعي الأساسي في المجتمعات الديمقراطية، المتمثل في ضرورة مشاركة الجميع في تحقيق التقدم.
كيف يؤثر هذا الهدف في الاستدامة؟
إن عدم توفر عمل لائق، وغياب أي نمو اقتصادي، يؤديان إلى ظهور مشكلات اجتماعية عدة. من هنا، فإن الهدف الثامن له تأثير كبير في تحقيق الاستدامة بمختلف جوانبها.. إليكم كيف:
- الاستدامة الاقتصادية: من خلال توفير فرص عمل مستدامة وزيادة الدخل، يتم تعزيز القدرة الشرائية للأفراد، ما يؤدي إلى تنشيط الاقتصاد، وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية.
- الاستدامة الاجتماعية: يحد العمل اللائق من التفاوت الاجتماعي، ويوفر للأفراد فرصًا لتحسين حياتهم، وحياة عائلاتهم، كما يعزز الشعور بالكرامة، والمساواة بين الجنسين.
- الاستدامة البيئية: من خلال تشجيع الابتكار والنمو الاقتصادي الأخضر، يمكن تقليل البصمة الكربونية للمؤسسات، وضمان ألا يأتي النمو على حساب البيئة.
ما تحديات تحقيق الهدف الثامن عالميًا؟
يواجه تحقيق الهدف الثامن، من أهداف التنمية المستدامة، العديد من التحديات على المستوى العالمي، أبرزها:
- البطالة: فرغم الجهود المبذولة، ما زالت معدلات البطالة مرتفعة في العديد من الدول، خاصة بين الشباب والنساء. بالإضافة إلى ذلك، يعتمد كثيرون على وظائف غير مستقرة أو مؤقتة، لا توفر الأمان الوظيفي، أو الحقوق الأساسية. ووفق منظمة الأمم المتحدة، فإنه يلزم توفر 470 مليون وظيفة على مستوى العالم، للوافدين الجدد إلى سوق العمل بين عامَيْ: 2016، و2030؛ لمواكبة نمو السكان في سن العمل بالعالم. ويعني ذلك، توفير حوالي 30 مليون وظيفة سنوياً.
- الاقتصاد غير الرسمي: في العديد من الدول النامية، يعتمد جزء كبير من القوى العاملة على الاقتصاد غير الرسمي، حيث تغيب اللوائح التنظيمية، وحماية حقوق العمال، ما يؤدي إلى تدهور ظروف العمل، وانخفاض الإنتاجية.
- عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية: تزداد الفجوة بين الأغنياء والفقراء عالميًا، ما يعيق تحقيق تنمية اقتصادية عادلة. وتعاني المجتمعات، الأقل حظًا، غياب الفرص الاقتصادية والتمييز الاجتماعي، ما يعوق تحقيق العمل اللائق للجميع.
- استنزاف الموارد الطبيعية: النمو الاقتصادي غير المستدام، الذي يعتمد على استنزاف الموارد الطبيعية، يؤدي إلى تدهور البيئة، ما يهدد فرص العمل في القطاعات التي تعتمد على تلك الموارد، مثل: الزراعة، والسياحة.
- تأثير التكنولوجيا والتحول الرقمي: رغم أن التكنولوجيا تساهم في تعزيز الإنتاجية، إلا أنها أدت، أيضًا، إلى فقدان العديد من الوظائف التقليدية بسبب الأتمتة. والدول التي لا تستثمر في تأهيل الأفراد؛ لمواجهة التحول الرقمي، تواجه صعوبات كبيرة في إيجاد وظائف مستقبلية.
معالجة التحديات
رغم هذه التحديات، فإن تحقيق الهدف الثامن ممكن، من خلال التعاون الدولي، والاستثمار في التعليم والتكنولوجيا، ووضع سياسات عادلة تعزز العدالة الاجتماعية، وتوفر بيئة عمل آمنة ومستقرة، تدعم النمو الاقتصادي المستدام.
الإمارات نموذج رائد
نجحت دولة الإمارات في أن تكون نموذجاً رائداً عالمياً في تحقيق الهدف الثامن، من أهداف التنمية المستدامة.. فكيف فعلت ذلك؟
• التنويع الاقتصادي: أدركت الإمارات، منذ عقود، أهمية تقليل الاعتماد على النفط، وعملت على تنويع مصادر دخلها عبر الاستثمار في قطاعات، مثل: السياحة، والتكنولوجيا، والطاقة المتجددة، والخدمات اللوجستية.
• تعزيز بيئة الأعمال: تحتل الإمارات مراكز متقدمة، عالميًا، في سهولة ممارسة الأعمال، حيث توفر بيئة قانونية وتنظيمية داعمة لريادة الأعمال، مع برامج تمويل، وحاضنات أعمال للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.
• توفير فرص عمل لائقة: تسعى الإمارات إلى توفير بيئة عمل آمنة وعادلة. على سبيل المثال، أطلقت قوانين وسياسات جديدة، تحمي حقوق العمال، وتعزز المساواة، وتضمن حصولهم على أجور عادلة، وفرص تدريب وتطوير مهني.
• الاستثمار في الشباب: تركز الإمارات على تأهيل الشباب لسوق العمل المستقبلي، من خلال الاستثمار في التعليم والابتكار، بمبادرات مثل «مشروع الـ50»، التي تهدف إلى تعزيز مشاركة الشباب في الاقتصاد الوطني.
• دعم النمو الاقتصادي الأخضر: التزام الإمارات بالاستدامة يتجلى في استثماراتها بمشاريع الطاقة المتجددة، مثل: «مصدر»، و«نور أبوظبي»، ما يعزز الاقتصاد الأخضر، ويوفر فرص عمل جديدة في هذا القطاع الواعد.
كيف تساهم هذه الجهود في تعزيز الاستدامة المتعددة الأبعاد؟
تساهم وزارة الاقتصاد، ووزارة الموارد البشرية والتوطين، بشكل فعال، في تحقيق الهدف الثامن للتنمية المستدامة، وجعل الإمارات نموذجاً عالمياً في هذا المجال. فتركز وزارة الاقتصاد على تعزيز الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وزيادة تنافسية الصادرات، ما يفتح مجالات جديدة للنمو الاقتصادي، ويعزز مكانة الدولة في الأسواق العالمية. في الوقت نفسه، تعمل وزارة الموارد البشرية والتوطين على تطوير استراتيجية وطنية، تهدف إلى توفير فرص عمل لائقة، وتعزيز المهارات اللازمة للقوى العاملة، ما يضمن تلبية احتياجات السوق، وتعزيز التنمية المستدامة. من خلال هذه الجهود، تشكل الوزارتان ركيزة أساسية في تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، والنمو الشامل، بالدولة.
كأفراد.. كيف يمكننا أن نساهم في تحقيق الهدف الثامن؟
هناك طرق عدة، يمكننا كأفراد المساهمة - من خلالها - في تحقيق هذا الهدف، منها: دعم الشركات المحلية، والمشاريع الصغيرة؛ لتعزيز الاقتصاد المحلي، والتطوع في المبادرات التي تهدف إلى تحسين بيئة العمل، والتركيز على فرص التعليم والتدريب المستمر لأنفسنا وللآخرين. كذلك، يجب علينا تحسين مهاراتنا الشخصية والمهنية؛ لتعزيز قابليتنا للتوظيف، والتوعية حول أهمية العمل اللائق والمستدام في المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، يمكننا المشاركة في حملات نشر الوعي حول مفهوم التنمية المستدامة، وأهمية تحقيق النمو الاقتصادي العادل والشامل، ما يعزز الالتزام الجماعي بتلك الأهداف.
في النهاية.. لا بد من تأكيد أن توفير وظائف ملائمة يسهم، بشكل فعال، في تقليص معدلات البطالة، ورفع مستوى معيشة الأفراد، ما يمنحهم فرصًا حقيقية للتقدم. وفي الوقت نفسه، يعزز الابتكار والنمو الأخضر، ما يؤدي إلى تقليل الآثار البيئية السلبية، ويضمن مستقبلًا أكثر استدامة لكوكبنا. كما أن زيادة مشاركة النساء والشباب، في سوق العمل، تعزز مبادئ العدالة الاجتماعية، وتساهم في بناء مجتمع متوازن وشامل، يضمن حقوق الجميع، ويساعد في تحقيق التنمية المستدامة.