على أرض الإمارات الثرية، عاش المجتمع الإماراتي تجارب إنسانية وثقافية ومجتمعية كثيرة، نَقَشَتْ آثارها الثقافية والإنسانية العميقة على تاريخه، وانعكست على البنية الشخصية للإنسان الإماراتي، ومن أهم هذه التجارب: الغوص، وصيد اللؤلؤ.
في حقبة مهمة من تاريخنا المعاصر، شكلت تجربة الغوص وصيد اللؤلؤ الرافد الاقتصادي الأهم في حياة المجتمع الإماراتي، وظلت خبرتها الثقافية، و«الهوياتية»، تتعمق في التكوين البنيوي للشخصية الإماراتية، وفي السطور القادمة سأجمل الأثر الثقافي والسلوكي في الشخصية الإماراتية..
واجه الغواص الإماراتي تقلبات البحر، وقسوته، بمرونة التكيف مع تلك التحديات، فلم تهزمه قسوة البحر في رحلته للبحث عن رزقه، وترسخت المرونة والتكيف في التكوين التاريخي لشخصيته، وهما من أهم عناصر نجاح المواطن الإماراتي في التماهي مع الحداثة، والحضارة، والتكنولوجيا.
عملية صيد اللؤلؤ لم تكن فقط مهمة الغواص الذي كان «رأس الحربة»، لكنها كانت «عملية جماعية بامتياز»، فهناك أفراد يعملون معه؛ لإنجاح مهمته في صيد اللؤلؤ. تلك الآلية رَسَّخَتْ - في تكوين الشخصية الإماراتية - روح التعاون والتضامن والمساندة، وتكوين رابط أصيل للعلاقة بين الفرد والمجتمع؛ فكانت أساساً متيناً، قام عليه اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة.
أنشأ الغوص وصيد اللؤلؤ علاقةً ما، بين الإنسان الإماراتي وبين الطبيعة، وقامت هذه العلاقة على احترام الطبيعة (البحر)، وفهمها، وإدراك تقلباتها، بين الهدوء والصخب. هذه العلاقة رسخت أن الطبيعة راعية لمقدراتنا، ونشأ المواطن الإماراتي على احترامها القائم على الوعي بها، وفهمها، والعلم بها، وهذا ما نراه واضحاً في بنية الشخصية الإماراتية الحديثة، التي تحافظ على بيئتها.. بوعي، واحترام.
امتلأت حياة الغواصين والبحارة، خلال رحلاتهم، بالأهازيج والفنون التي كانت ترافق عملية الغوص؛ فكانت تضفي على الرحلة طاقة إيجابية، تساعدهم على مواجهة وحشة البحر وقسوته، وأحياناً صمته المخيف، فصارت أهازيج البحارة جزءاً أصيلاً من تراثنا الثقافي، وملمحاً أساسياً من ملامح هويتنا الثقافية، وامتد هذا الأثر إلى بنية الشخصية الإماراتية الحديثة، والتراث الفني، مكوناً رئيسياً من مكونات هذه الشخصية، لا يمكن تجاوز أثره العميق، وحرصت قيادتنا الرشيدة على إبقاء هذا التراث حياً، ما يزيد الأثر الإيجابي لتلك الفنون التراثية في تكوين شخصية محبة للحياة، والفنون، والإنسانية.
إن تجربة الغوص تجسيد لرؤية إنسانية عميقة ترتبط بجوهر الهوية الإماراتية. وتذكّرنا هذه التجربة بأن الإنسان، مهما كانت تحدياته، قادر على اكتشاف أعماق نفسه وبيئته، وأن السعي نحو المعرفة والموارد الاقتصادية يتطلب شجاعة وصمودًا. كما أنها تُعدّ تجسيدًا لتراث غني، يجب علينا استحضاره وتقديره، ليس فقط كجزء من تاريخنا، بل كأداة لتعزيز هويتنا الثقافية، وكنزٍ من الحكمة، يُنيران طريقنا في عالم سريع التغير.. إن إعادة إحياء هذه القيم، وتقدير تراثنا الثقافي، يمثلان خطوة أساسية نحو مستقبل أكثر استدامةً، وإنسانية.