حين نفتح أرواحنا، وعقولنا، على تجارب الحياة في لحظات حياتنا الأولى، نعيش لحظات سعادة حقيقية صافية نقية دافئة، في انعكاس لذلك الشعور بالأمان، الذي يفرد أجنحته على حياتنا، وتلك الابتسامة الحنونة التي تملأ أعيننا؛ فنحن في حضرة «حضن الأم».

حين نكبر، وتأخذنا «عزة الفردية»؛ نرى ملامحنا في «مرآة الذات»، وندرك أبعادنا، وننفصل - رويداً - عن ذلك «الحضن»، وتسحبنا تيارات الحياة في فيضها المتدفق - بلا توقف - مع هدير الأحلام، والأمنيات، والأهداف الذاتية، نفقد جزءاً كبيراً من ذلك الأمان، وتلك السعادة الفطرية الصافية، وتبقى سعادتنا مجروحة بالخوف والقلق والحزن، وبعض الخيبات. وعندما نُلقي بكل تلك المشاعر في «حِجر الأم»، ونشعر بكفَّيْها تربتان على أكتافنا بحب، ونغوص في «حضنها»، فما هي إلا لحظات، ونكتسب شعوراً بالأمان لا حدود له، يعيد إلينا الإصرار، والطاقة الكاملة، فنستعيد بريق إرادتنا؛ لنكمل رحلتنا في الحياة.

مع التغيرات والتحولات التي تحدث في المجتمع، والمعطيات المحيطة بالإنسان، وتحول شبكات التواصل الاجتماعي إلى شريك رئيسي في الحياة، وانعزال الكثيرين من أفراد الأسرة «داخل شاشاتهم الزرقاء»؛ نصبح أمام تحول كبير في هذا المشهد لعلاقة الأم بالأسرة. هذا التحول تَركز في كيفية التعبير عن «الحب الأمومي»، وآليات العمل التي تمارسها الأم؛ لحماية أسرتها من أي تفكك ناتج عن تلك العزلة، التي هي ضريبة للتطور والتكنولوجيا الحديثة؛ حتى يمكن الحفاظ على إمدادات السعادة لأفراد الأسرة، وشعورهم بالأمان، وقدرتهم على النجاح، والتماسك الأسري الذي هو نواة للتماسك المجتمعي، وتحقيق الأمن الاجتماعي، وهو الإطار الداعم لتطور ونمو المجتمع.

يبقى سطر أخير، أكتب فيه حقيقة لابد أن نعيها جيداً، هي أن «الأمومة حالة من العطاء»، فلا يكفي الإنجاب فقط لإدراكها؛ فكم من أم حقيقية لم تنجب أبناءها، لكنها امتلكت مشاعر أمومة صادقة، عَلمت، وزرعت المحبة والتسامح والتعايش والإنسانية في نفوس الأطفال!.. أحياناً تتحول العلاقة بين الأخت وإخوتها إلى علاقة أمومة، خاصة حين يكون الأخ هو الأصغر؛ فيكبر أمام عينيها، متعلقاً بأهداب ثيابها في طريقه إلى الحياة، مستنيراً بخطوات قدمَيْها، وهي تراقب نموه، يوماً وراء آخر، وينمو في قلبها شعور المحبة، الذي يتحول من «محبة الأخت» إلى «محبة الأم»، ويظل هذا الشعور دستوراً يحكم علاقتها به!

الأمومة ليست مجرد ميلاد طفل بين يدَيْ أم، بل هي نور من المحبة، يشرق في لحظةٍ ما.. قد يشرق في لحظة الميلاد، وقد يشرق في لحظة الوعي والإدراك بعد الميلاد، وقد يشرق في اللحظة الأولى من اللقاء الأول. تجربة الحياة تُنبئني بأن «الكيان الأمومي» يحمل في قلبه أسمى درجات المحبة، وهي درجة «المحبة الأمومية».