العملاق، الذي قالوا عنه إنه خطير، وثبتوا تحت أقدامه لوحة كُتب عليها: «خطر»، العملاق الحديدي الضخم، الذي كان أمام باب البيت، عملاق بارز العظام تحت الشمس، والفضاء المتقلب بالغيم والمطر والحرِّ والرطوبة والبخار، والذي ظلَّ لسنوات شاهداً على نمونا ونموّ البلدة، وكان على إحدى أقدامه الإسمنتية الأربع يجلس «رجل الليلام» (البائع المتجول) في آخر النهار، منحنياً، يرتب بضاعته بعد نهاية التجوال بين بيوت البلدة. 

الريح تضرب العملاق بلا هوادة، ويظل - عبر السنوات - ثابتاً ماداً أذرعه الست، مُرسلاً أوردته إلى الأقاصي البعيدة، ومُشعلاً الأرض ضوءاً وروحاً، كنا نطوف من حوله، ونستظل به، ويمتدّ اللعب والخيال بين قواعده الأربع، ونلمح السماء المربعة في أقصى الأبعاد من رأسه، نخطط لتسلق عظامه الحديدية، ولمس الغيم، وكثيراً ما كان يسكننا الظن بأن قريتنا هي الوحيدة التي تملك عملاقاً خاصاً بها، وكلما كبرنا اكتشفنا وجود سلالات جديدة من العمالقة الثابتين كحُرّاس، والمنتشرين بشكل منظم في كل البقاع.

الهواء نادر، والرطوبة تضرب العملاق بلا هوادة، يتكلم العملاق، يتكلم في الصيف؛ عندما يشعر بالحر الشديد، يتكلم عبر الأسلاك اللانهائية، لغته الأزيز (زززززز...)، وفي ظلمات الليل تتلامع أسلاكه مثل النجوم.

حدث مرةً، في أحد الأشتية، أن هبّت عاصفة؛ فانقطع التيار عن البيوت، وانهار سلك من أصابع العملاق، ضارباً شجرة في البيت، فاشتعلت الشجرة بالنار والدخان، وبدأت تتعالى صرخاتنا بالفزع والخوف. كنتُ أراقب العملاق بهدوء خيالي غريب، تداعت أفكار الآباء حول مدى خطورته، ومنعهم إيانا من اللعب حوله. تساءلتُ: مادام خطيراً على هذا النحو.. لَمَ تركتموه لسنوات طويلة واقفاً أمام البيت؟.. تقول أمي: إنه يخدمنا في النور!

إنه خادم النور إذن.. وقد يغضب أحياناً مع انبثاق العاصفة!

في إحدى سنوات الثمانينيات، غبنا عن القرية لشهرٍ كامل، كان طريقنا - وقتها - إلى العاصمة يمتدّ إلى خمس ساعات، أراقب فيها، على جانبي الشارع، العمالقة الذين يشبهون عملاقنا الحديدي، كنت أنشغل بعدِّ العمالقة، وأكتشف بقاعاً، أوسع من الصحاري، أضحت تحوي مجتمعات جديدة لا نهائية من العمالقة. 

أتذكر جيداً تلك الليلة، التي عدنا فيها إلى القرية وسط صمت مسجى على جسد الليل، كل شيء باقٍ في مكانه، ثمة شيء في السماء مُفتَقَد لم أدرك ما هو، ثمة سكون وحلكة وصمت صيفي غريب، ومن شدة التعب أوينا إلى فراشنا، وسرعان ما استيقظنا صباحاً على الفراغ العظيم في الفضاء...

لقد اختفى العملاق الحديدي نهائياً من أمام البيت، ومن أرض البلدة وسمائها، واختفت معه سلالة العمالقة في السهل الممتد إلى البحر.. هكذا حصل الاختفاء سريعاً ومفاجئاً وكئيباً. ترك لنا أقدامه الأربع الإسمنتية، ولوحة «خطر».

لقد رحل العمود الكهربائي العظيم، تاركاً فراغاً هائلاً أمام البيت.

«لقد أخذوه».. قالها أخي الصغير، وفي عينيه لمعة شجن، تُؤهله لحنين عميق، سيتجذر في الروح.