لطالما كانت «س» (صديقة طفولتي، وجارتي المقربة)، تتميز بالذكاء والهدوء وحسن المعشر. وبمرور الزمن، فرقتنا ظروف الدراسة والعمل، وبعد فترة من الانقطاع، تواصلتُ مع عائلتها للاطمئنان عليها؛ ليخبرني والدها بأن حالتها الصحية تدهورت، وأنها لم تعد تتحدث. أشار طبيب العائلة إلى أن حالتها ليست جسدية، بل تعاني «الاكتئاب»، وتحتاج إلى علاجات دوائية حديثة، وجلسات نفسية تساعدها على التكيف، وتخفيف معاناتها. عندما لجأت الأسرة إلى العلاج النفسي، أوصت الطبيبة بمزيج من العلاجات، ما أسهم تدريجيًا في تحسن حالتها، وعودتها إلى طبيعتها.

كثيرة هي الحالات المشابهة لصديقتي، في كل مجتمع وبيئة؛ إذ يعاني العديدون الاضطرابات النفسية والعصبية، الناجمة عن مجموعة متنوعة من الأسباب، مثل: العوامل الوراثية، وتجارب الحياة، والتغيرات الكيميائية في الجسم. ويسعى الطب النفسي إلى تخفيف حدة هذه الاضطرابات، أو معالجتها. وتشير الدراسات إلى ارتفاع معدلات هذه الاضطرابات عالميًا، حيث تسهم التحولات السريعة في نمط الحياة، وضغوط العمل، والهجرة من البيئات الريفية إلى الحضرية في تفاقمها. ومع ذلك، تُحيط بهذه الأمراض في العديد من المجتمعات وصمة اجتماعية، تجعل المرضى أو أسرهم يترددون في طلب المساعدة، ما يؤثر سلبًا في العلاقات الشخصية والأداء المهني، للمصابين وأسرهم.

وأدركت دولة الإمارات هذه التحديات، فسارعت إلى تنفيذ حلول فعالة للتوعية بالأمراض النفسية والعصبية، وعلاجها. ومن بين هذه الجهود، أطلقت وزارة الصحة ووقاية المجتمع السياسة الوطنية؛ لتعزيز الصحة النفسية بهدف تحسين جودة الخدمات النفسية، وزيادة الوعي بأهمية الصحة العقلية في المجتمع الإماراتي. بالإضافة إلى ذلك، تم إنشاء البرنامج الوطني للصحة النفسية، الذي يركز على دعم الصحة النفسية، بتقديم خدمات استشارية وبرامج توعوية على مستوى الدولة.

وقد أنشأت الإمارات مستشفيات ومراكز صحية متخصصة؛ لعلاج الأمراض النفسية والعصبية، مثل: جناح العلوم السلوكية في مدينة الشيخ خليفة الطبية بأبوظبي، ومستشفى الأمل بدبي، ومركز دبي للصحة النفسية. كما شجعت الأبحاث العلمية في مجال الأمراض النفسية والعصبية، ودعمت الابتكار لتقديم حلول علاجية جديدة. واستثمرت الدولة في تطوير مهارات الأطباء والممرضين، للتعامل مع هذه الأمراض، من خلال برامج تدريبية متخصصة.

في شهر أكتوبر من كل عام، تحتفي الإمارات باليوم العالمي للصحة النفسية، حيث تنظم مؤسسة الإمارات للخدمات الصحية حملات لرفع مستوى الوعي بأهمية الصحة العقلية، والدعم المجتمعي، مركزة على تعزيز الصحة النفسية لمختلف شرائح المجتمع، خاصة في المدارس. وتضم هذه الحملات برامج وفعاليات، تشمل: ورش عمل، ودورات تدريبية للطلاب والمعلمين. بالإضافة إلى ذلك، بدأت شركات التكنولوجيا الصحية تطوير تطبيقات تقدم استشارات نفسية عن بُعد.

من خلال هذه المبادرات، ترسي دولة الإمارات نموذجًا رائدًا في المنطقة، يهدف إلى تحسين جودة الحياة، وتعزيز الصحة العامة. وقد نجحت هذه الجهود في تعزيز الوعي المجتمعي بالأمراض النفسية والعصبية، وتوفير الدعم اللازم لتحسين جودة حياة المرضى وأسرهم. وتعكس هذه الخطوات رؤية شاملة لبناء مجتمع متماسك، يتمتع فيه الأفراد بصحة نفسية جيدة، ما يسهم في استقرارهم، الشخصي والاجتماعي.