هو سؤال قديم لا يهدأ في داخلي، وكأنه يمتد من فضاء سحيق وعوالم منسية. أُفكِّر بالأنهار، الأنهار الخالدة في الأرض تسير متعرجة، تقطع آلاف الأميال في سيرها الالتوائي، لا خطّ مستقيماً لها، تسير ملتوية؛ لتحفر الأرض، وتنحت الصخر، وتكسب طاقة تدفقها بانحناءات مسيرها، تنمو الأنهار بصورة متعرجة، لو قدّر لها النمو مستقيمة، لما كان لها طموح الانسكاب الأخير في البحر العميق، ولاستحال النهر مستنقعاً.
أريد أن أنمو كالنهر..
الأنهار الأولى، أنهار الأبدية، البعيدة في الصحاري، الأنهار الأولى التي أشرفت عليها المرتفعات الأزلية، كوادي النيل العظيم الذي يشق الأرض السوداء، لم يَصِرْ إلى ما آل إليه هذا النهر من المكانة المقدسة والبيئة المنيعة في العصر الحجري الأخير لولا عزلته عن الرياح القطبية، والزمهرير الذي قاست منه أنهار شمال البحر المتوسط.
الجفاف الصحراوي المحيط بالنيل هيأ لنشوء معمل تجارب اجتماعي لا مثيل له، ومهد أمام النزوح البشري الأول في رحلة البحث عن مأمن، حتى فاضت الضفاف عن أول أمة زراعية في التاريخ على أرض النيل.
في عزلة الأنهار قوّة، وتستنبت الأرض نفسها من رحم الجفاف.
ثمة نهر هناك، سأتعلم منه أن أتصرف وفق ما تقتضيه اللحظة، أن أكون كالمرآة، أعكس من يقف أمامي طالما هو واقف يتأمل ويراقب ويفتتن بنفسه. وبمجرد أن يبتعد، لن يكون له انعكاس عليَّ، ولن أكترث بابتعاده، وإنما سأنشغل بانعكاس لحظة أخرى، انعكاس كل من يمر أمامي متأملاً مشتاقاً لنفسه، حتى وإن أتى زمان لن يمر فيه أحد، سأنشغل بانعكاس الفراغ.
وأفكِّر، أيضاً، بالأشجار، الشجرة الضخمة التي تقف في وجه الرياح المؤلمة، بفضل قوة تلك الحلقات الصلبة، التي تنمو في جذعها سنوياً، والتي ربما كانت تنمو منذ قرون، وتبقى متأصلة داخل تركيب جذعها العظيم.
يوهمنا جذع الشجرة باستقامته، يوهمنا بنموه المستقيم نحو السماء، لكنه في الأصل ينمو كما ينمو الكون، في حلقات دائرية. لو قدّر لتلك الحلقات أن تنمو مستقيمة، لانكسر الجذع منذ الكينونة.. أعرف أني أنمو مثل حلقات الشجر الدائرية، لكني أصرّ على تجريب فكرة السير في خط مستقيم، هكذا أبداً.. ماذا سيحدث؟