جولة عابرة للأزمان.. في «اللوفر أبوظبي»
يبدأ العلم بالحكاية، وبعد أن أخذت الحكايات زمناً طويلاً، وهي تُروى على ألسنة البشر؛ ابتُكرت - في الهند شرقاً -الحكاية المرويّة على ألسنة الحيوانات؛ ليبدأ عهد جديد للحكاية الرمزية، التي كانت - في الأغلب - تُروى للملوك والحكام، وفيها من المواعظ والحكم ما يمسُّ النفس البشرية على المستوى الشخصي، والحياتي، والأسري كذلك. جاءت حكايات «كليلة ودمنة»، المترجمة على يد ابن المقفع في القرن الثامن الميلادي، وكذلك الحكايات المنسوبة إلى الشخصية الأسطورية «إيسوب» في القرن السادس الميلادي، لتنتقل بالترجمة إلى العالم، ثم أتت بعدها الحكايات الرمزية لجون دي لافونتين، في القرن السابع عشر؛ كي تستقرّ جميعها مؤقتاً في «اللوفر أبوظبي»، مانحة الجمهور تجربة معرفية فريدة.
كتاب الحكايات
أول ما يقابل زائر معرض «من كليلة ودمنة إلى لافونتين.. جولة بين الحكايات والحكم»، المعرض الذي ينظمه «اللوفر أبوظبي»، بالتعاون مع المكتبة الوطنية الفرنسية، ومتاحف فرنسا، ودار المجوهرات الراقية «فان كليف أند آربلز»، والذي يفتح أبوابه للجمهور حتى 21 يوليو المقبل، كتابٌ كبيرٌ مفتوحة دفتاه، وتبرز من صفحته الواسعة قصة من قصص «كليلة ودمنة»، وعلى الصفحة المقابلة الرسم المجاور لها، وتتصاعد منه رسومات تنتمي إلى ثقافات مختلفة، من كتاب ابن المقفع ولافونتين، تلك الرسومات التي لازمت الترجمات المختلفة لـ«كليلة ودمنة»، الكتاب الذي انتقل من بلدٍ إلى آخر، آخذاً معه الحِكَم، وحكايات «ابن آوى»، والقيم الإنسانية الكبيرة، التي يضيفها إلى معرفة ووعي القارئ.
ولا يمكن الوقوف أمام هذه التحفة الفنية من دون الشعور بهيبة الكتاب، ومدى تأثير القصة، الذي امتدّ لقرون طويلة، فلا زالت تحظى بقارئ مهتم، وبطبعات جديدة، وتجد مكانها لدى المكتبة العربية والعالمية.
من ابن المقفع.. إلى فرنسا
في المعرض أقسام عدة، ومعروضات متنوعة بين العمل الفني والكتاب، وقد قسّم إلى أقسام عدة، بحسب المكان الذي ولدت فيه القصة الرمزية. ففي البداية، يمر الزائر على الجانب الشرقي، المتمثل في ترجمة ابن المقفع لكتاب «كليلة ودمنة»، مستعرضاً نسخاً عدة للكتاب، من سوريا ومصر، وغيرهما من الدول، فيجد المشاهد لها اختلافاً في الحجم، وشكل الرسومات، والخط، متنقلاً من زمنٍ إلى آخر، ثم يمرّ بحكايات «إيسوب»، ويقف منبهراً أمام نسخ كتب لافونتين، ورسوماته التي قد تكون استقرت في ذاكرته منذ الطفولة.
وليست الكتب وحدها هي المحمية في بيوتها الزجاجية بالمعرض، فالجدران مزينة برسومات من كتاب «كليلة ودمنة»، وتستند إليها، كذلك، رسومات من أعمال جون دي لافونتين، جاورت قصصه الرمزية المبتكرة، بالإضافة إلى معروضات أخرى، مثل: الآنية المزخرفة برسومات مستفيدة من قصصها، والجدران المنحوت عليها شيء من الحيوانات المذكورة في كتاب ابن المقفع، بالإضافة إلى ساعة كبيرة، يحملها تمثال مجسّد لشخصيات من قصص لافونتين، وأوراق لعب، وبطاقات إشهارية لنوع من أنواع الشوكولاتة، وبطاقة يانصيب مزخرفة برسوماته كذلك، لتخبرنا كل هذه المعروضات بمدى تأثير القصة الرمزية في الحياة، وليس فقط في مستوى فكر القارئ. وعن هذه الحداثة التي أجرت لها سُنتها في الكتابة القصصية، وأخذتها إلى مستوى مختلف تماماً، لم يكن عابراً وانتهى في زمنه، بل جعلها تحظى باهتمامٍ بالغ من المهتمين والشعوب، وأدى إلى ترجمتها بلغات مختلفة، وتداولها زمناً بعد زمن، بكل الطرق الممكنة، مكتوبة، أو غير مكتوبة.
للطفل نصيب من «المعرض»
منذ دخوله المعرض، يجد الزائر لوحة إرشادية للزوار الأطفال، تطلعهم على طريقة تحصيلهم المعلومة في المعرض. وفي الداخل، وبجانب كل مجموعة معروضة، توجد لوحة صغيرة تخبر الأطفال، وبكلمات وجيزة، عن معرفة يحتاجون إليها خلال جولتهم في المعرض، وتجعل من «ابنَيْ آوى»، الشخصيتين الأساسيتين في «كليلة ودمنة»، رفيقَيْهم فيه.
وبالإضافة إلى هذا، خصص المعرض ركناً، يعرض مسرحيةً للأطفال، تحكي قصة رمزية بأسلوب العرض التلفزيوني، إذ يقف المشاهد أمام شاشة متوسطة الحجم، وبداخلها خلفية لقصة ما، ويتجول على المسرح «حكواتي»، يتناول القصة بطريقة تناسب الأطفال، وتُشعرهم بالحماس، وتشدهم للاستماع إليه.
كما يجد الأطفال، في نهاية جولتهم، أجهزة خصصت ليصمموا عليها قصتهم، المستوحاة من كتاب ابن المقفع، ويضع الذكاء الاصطناعي أمامهم خيارات محددة وبسيطة، تمكنهم من اختيار الرموز والقيم، التي يرغبون في أن تكون بطلة قصتهم. وبعد اختيارهم، يكتب لهم قصة مناسبة، يمكن تحميلها على هواتفهم المتحركة، ومشاركتها مع عائلتهم وأحبتهم.
إلى جانب هذا، يحوي المعرض، أيضاً، منصات لعرض بعض قصص «كليلة ودمنة»، على شاشات طولية، وبلغات مختلفة، وبأصوات جاذبة، ورسومات مدهشة، للراغبين في الاستراحة قليلاً من المشي، والوقوف أمامها؛ لالتقاط أنفاس الحكمة منها، وإكمال جولتهم بعدها، وكلهم رغبة في أن يعرفوا أكثر عن بقية قصص الكتاب.
إلهام لا ينضب
ترجمات «كليلة ودمنة» - المعروضة في المتحف، التي تمتدّ منذ نحو عام 750م، العام الذي منح ابن المقفع فيه العالم هديته الثمينة هذه، إلى ما يقرب من عام 1700م، والتي تنوعت لغاتها، بين اللاتينية والإسبانية والإيطالية والفرنسية والهندية والفارسية، وغيرها، كما تنوعت طريقة ترجمتها بين النثر والشعر - دليلٌ يعتدّ به على أنّ الكتاب لم يكن خاصاً بالقوم الذين كتب بلغتهم، وإنما هو لكل الناس، وللكبير قبل الصغير، فهو مرآةٌ للنفوس، والحياة، فتمرّ بكل أطوار الكائن البشري، وتريه كيف يمكنه النجاة من الغرق، والصعود إلى الخلق الرفيع، أياً كان انتماؤه، ومهما كانت لغته.
ودخول المعرض يعد دخولاً إلى عوالم ملهمة من الحكايات الرمزية، وتجولاً بين أزمانٍ عدة، أخذتها من كتابٍ إلى كتاب، ومن جدارٍ إلى آخر، ومن آنية إلى تحفة أكبر تسرّ الناظرين، فهي رحلة لا بدّ من خوضها، حتى نعرف كيف يمكن للإبداع ألا ينتهي، وإن تقادم عهده.