حينما يُقال «ستوكهولم»؛ نذهب تلقائياً بالفكرِ والبال إلى عاصمة دولة السويد. لكن، هناك من يعيشون، يومياً على وقع الثواني، حالة «ستوكهولم».
«نجاة»، شابة في الثلاثين، كبُرت قويّة الشخصية. لكن، لسببٍ ما، أصبحت خانعة، ولم تعد كما كانت، فلم تعد كما عرفها أصدقاؤها. باختصار، لم تستطع «نجاة» النجاة من براثن من يفترض أن يكون حامياً لها. عانت كثيراً تصرفاتِ زوج أحبته، واعتقدت أنها ستُشكّل وإياه عائلة هانئة. لم تعد تجرؤ على الكلام بحريّة؛ كي لا يوبخها. لم تعد تجرؤ على الخروج من منزلها؛ إلا إذا شاء. أصبحت (مجازاً) «مثل الخاتم في إصبعه»، فهو يعنفها، وتبحث له عن مبررات.. فهل تغيّر الرجل الذي أحبته، أم تغيّرت هي؟.. وماذا عن متلازمة «ستوكهولم»، التي قيل لها: إنها تشكو منها؟.. فلنبحث في قصّة «نجاة» (ومن هنّ مثلها) مع الدكتور شارل يعقوب، الطبيب النفسي والاستشاري، بالمركز الأميركي للأمراض النفسية والعصبيّة في أبوظبي.
نُصغي إلى الدكتور شارل يعقوب بتمعّن، نسمع عن أصل التسمية، وعن السبب الذي يجعل امرأة تُعنَّف تُبرّر لمن يعنّفها فعله.. فماذا في تفاصيل متلازمة «ستوكهولم»؟.. يجيب: إن «استخدام هذا المصطلح جاء بعد حادثة سطو مسلح على مصرف في عاصمة السويد ستوكهولم عام 1973، إذ لوحظ على أثرها أن بعض الرهائن تعاطفوا مع المسلحين، ودافعوا عنهم أمام الرأي العام. فقد شعر الرهائن، بحسب من طوروا مفهوم (المتلازمة)، بأنهم يتعرضون لخطر كبير وعزلة عن أي شخص آخر قادر على مساعدتهم؛ ففقدوا حبل النجاة مع الخارج.. خافوا كثيراً.. ووقعوا أخيراً في حالة تعاطف مع الخاطفين».
إذا تسرعنا؛ فسنقول: «التعاطف مع المعنِّف من رابع المستحيلات». لكن، في بعض الحالات يحصل ما يُسمى متلازمة «ستوكهولم». فكيف نعرف أن ما تعيشه «نجاة»، أو أي ضحية أخرى، هو «ستوكهولم سيندروم»؟.. يجيب الدكتور يعقوب: «يفترض وجود عوامل واضحة، بمعنى وجود فارق كبير في القوة بين المعتدي والضحية. والعامل الآخر يكمن في أن المعتدي يحاول عزل الضحية عن العالم الخارجي، أو عن أي أمر آخر يكون مساعداً لها، فتشعر بعدم قدرتها على الوصول إلى أي أمرٍ من شأنه المساعدة على تخطي الحالة والنجاة. أما العامل الثالث، فيتمثل في أن المعتدي قد يقوم بمبادرات حسن نيّة صغيرة، فيُقدّم هدية متواضعة بعد فعلٍ عنيف؛ فتشعر الضحية بأنه ندم، أو أن ما فعله كان لسببٍ خارجٍ عن إرادته».
قد تبدأ المسألة بسيطة، وتتطور «فتعتاد الضحيّة أولاً وجود المعنِّف، ثم تتقبّل ما يحدث. وفي المرحلة الثالثة، قد تتعاطف معه. قد يحدث كل هذا في ظلِّ فرضِ المعتدي العزلة على ضحيته، وغيابٍ كاملٍ لأي تأثير خارجي، يدحض أفعال وممارسات المعنّف، فتقتنع الضحية بأفكاره؛ لدرجة أنها قد تشعر بأن هذه الأفعال تحدث معها لسببٍ جوهري سام، وعليها أن تتقبّله، أو أنها تدفع ثمن أداء أو أفعال سابقة».
النساء والأطفال هم أكثر من يواجهون «ستوكهولم سيندروم»، أما الرجال فبنسبة أقل. قصّة الصبيّة «نجاة» واحدة من تلك الحالات.. فكيف تظهر تلك المتلازمة بين رجل وامرأة؟ يقول الدكتور يعقوب: «مع أن توصيف هذه المتلازمة بدأ مع سطو مسلّح، واعتقال ورهائن، فإن ما نراه اليوم قد يظهر على صعيد العلاقات، سواء بين شخصين راشدين، أو بين ولد وشخص راشد (كبعض حالات التحرش الجنسي مثلاً، أو العدوانية المستدامة جسدياً، أو عاطفياً)».
في المجتمعات الذكورية، هناك رجال يستخدمون - أو قد يستخدمون - فارق القوّة بينهم وبين الضحيّة ليزيدوا - بحسب الطبيب النفسي - سطوتهم أو قوتهم على المرأة بطريقة غير مباشرة، مثل لومها على أمور لا دخل لها بها وانتقادها، وحتى السخرية منها إلى حدّ يجعلها تشكّ في نفسِها، وصوابية ما تقوم به. ويستطرد يعقوب: «نلاحظ استخدام (silent treatment) في مثل هذه الحالات، فيبتعد الرجل، ويرفض أن يتكلم مع الضحية لفترات طويلة، ويتصرف كأنها غير موجودة. إنه ينفذ سياسة عزلها من ناحية، ويمنحها من أخرى - بعد فترة - نسبة معينة من الدعم العاطفي أو المعنوي. وقد يعمد المعنّف إلى استخدام شخص ثالث؛ ليثبت وجهة نظره، وقد يكون صديقاً له، أو والدته، مدعماً بذلك أسلوبه وتصرفاته. وهذا المعنّف نفسه قد يعود ويستخدم أسلوب التلاعب (hoovering)، حيث يمتصّ غضب الضحية؛ كي لا تفلت منه، ويمنع هروبها؛ فيقوم بمبادرات حسن نية، أو اعتذار، أو تصرّف عاطفي، أو يقدم هدية؛ ليعود وينقضّ، مجدداً، على ضحيته. وهذا ما نراه لدى الشخصيات النرجسية. النقطة الأخيرة تظهر حينما يعمد المعنف إلى عزل ضحيته عن محيطها؛ بحجة أنهم غير مفيدين لها. فيبعدها عن أهلها وأصدقائها وإخوتها وأخواتها، وحتى عملها. وحينما ينجح في ذلك، يصبح وحده القادر على التحكم في حياتها؛ فتظن أنه الوحيد القادر على حمايتها، وتدريجياً تعتاد تصرفاته وتتقبلها، ولاحقاً تتعاطف معه الضحية؛ فنراها تبحث عن مبررات لتصرفات المعنّف، وتقنع نفسها بأنها أخطأت في حقّه، وتُبرّر تصرفاته على أنه تم تعنيفه وهو صغير، أو يقوم بما يقوم به بسبب مشاكل مالية أو اجتماعيّة يتعرض لها». هكذا، بحسب يعقوب، تقتنع الضحية بنظرية الرجل المعنّف.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل هناك علاج فعّال لهذه الحالة؟.. يجيب الطبيب النفسي: «المعالج يواكب، عادة، ما يحدث بطريقة تسمح له تدريجياً بمعرفة مكامن الخلل في التصرفات، وردات الفعل، أو حتى الطريقة التي ترى الضحية الأمور بها». ويضيف: «ليس هدفنا أن نخبر الضحية بأنها مخطئة في ما هي مقتنعة به؛ لأن من شأن ذلك إحداث ردة فعل عندها، وقد تشعر بأن المعالج لا يفهمها، ولا يستطيع مساعدتها، كما لا يستطيع أصدقاؤها ذلك، فيفشل العلاج. لذلك، المواكبة العلاجية تكون تدريجية؛ لدفع الضحية إلى التعبير عما تمرّ به. وليست هناك أدوية مدرجة في علاج متلازمة (ستوكهولم)، لكنها قد تنتج عنها حالات مرضية أخرى، مثل: الاكتئاب، واضطرابات ما بعد الصدمة، وحينها يُصبح العلاج الدوائي ضرورياً، ولا توجد نسب علمية حول الحالات في إطار العلاقات المختلفة، لكن يقال: إن 8% من الرهائن يقعون ضحية متلازمة (ستوكهولم)».
السؤال الأخير: هل هناك نصيحة معينة، يقدمها الطبيب النفسي في حالات كهذه؟.. يخبرنا الدكتور يعقوب: «يجب على المرأة أن تنتبه - منذ بداية العلاقة - إلى أي تصرفات عدوانية من الشريك، جسدية كانت أو عاطفية. على سبيل المثال: (Gaslighting, Silent treatment, triangulation or scapegoating). وفي حالة النساء، مثلاً، تجب المحافظة على هامش قوّة واستقلالية، سواءً عبر عملها، أو استكمال دراستها؛ لتبقى قادرة على مواجهة الأمور السلبية التي قد تقع فيها، كما عليها المحافظة على علاقات وطيدة مع أهلها وأصدقائها؛ للحفاظ على شبكة أمان (safety net)؛ وتجنب قدرة معنِّفها على عزلها واستدراجها، بشكلٍ كامل، إلى منطقة سلطته».