الصيام مُرتقى الروح، واتصال الروح بخالقها، وتطهير القلوب، وولوج أبواب الخلاص من الدنيويات.. وسيلة للتوسع في الوعي، وتفعيل الإرادة، وتنظيم النوم، وتأمل الهدأة. والسبيل إلى ارتقاء طاقة الخلق والإبداع، ومفتاح لتفعيل المشيئة الحُرَّة والخيار الشخصي، إذ تكون أنت القائد على جسدك وحياتك وسماوات فيض وصالك مع الله، وذكر ملكوته.
الصيام درب روحي لتفعيل الحواس، فأنت مدعوم في كل الأحوال، سواءً بدعم الوعي الجمعي، أو بدعم كوني مُطلق. أنت السيد على عرش ذاتك، بالصبر والتحدي والمثابرة والإرادة والاستمرار والصمت الروحي، وسريعاً ما تُطلق أجسادنا تردد التشافي والتحرر. وعن طريق الحضور في اللحظة، والانغماس في التجربة الروحية؛ تتجسد الأمنيات بعد عيد الفطر، فيأتي العيد وأنت بنسخة جديدة منك، كأنك وُلِدت من جديد، فإذا أتى العيد وأنت بنسختك القديمة فكأنك في الحقيقة لم تَصُم.
هذا هو المعنى الروحي لرمضان، والصيام في نهاره، والقيمة العميقة الأصيلة التي بتنا نستشعر غيابها في النفوس، في ظل استشراء الراحة، وطاقة الاستهلاك، والمشتتات اليومية.
ربما، ولسنوات طويلة، كنا نطفو على القشرة الخارجية لدلالة الصيام، فباتت الروح تبتعد، ولا تصطفي شيئاً من المادة سوى أبواب الأدعية في الخلوات. إن الجسد بحاجة ماسة، أيضاً، إلى الفكرة العميقة حول الصيام؛ فلا غنى عن الجوهر، فيتعب الجسد ويمرض سريعاً بمجرد تكريسه لخدمة الفكرة السطحية للصيام، التي مفادها الامتناع عن الطعام والملذات فحسب. فلابد أن نتذكر، دائماً، الفحوى الأصيلة للصيام؛ كي يختفي الإدراك العادي والمُضلل، ونعيد العمل على أنفسنا على الصعيد الروحي، فنتجاوز - بذلك - كلَّ ما هو مؤقت وفانٍ. ولعل أمر إدراك شهر رمضان في رسالته العميقة بمثابة فرصة جديدة لإعادة جدولة الحياة، وتنظيم الجسد، وتجلٍّ جديد لفهم أكبر وأوسع لجوهر الصيام. وهذا انعكاس كامل لفكرة أن تكون للإنسان الحرية الروحية في إدراك العالم.